لم تنحصر عنجهيّة المحتلّ يومًا عند حدود قطاع غزّة، بل امتدّت نحو فلسطين كلّها أوّلًا، والدّول العربيّة بأكملها ثانيًا، ورغمَ كلّ هذا الاستكبار المُعلَن، تستمرّ الحكومات بمسلسل العلاقات الطبيعية مع المحتلّ، فيقصفها من جهة، وتعطيه يدها منَ الأخرى.
تعلن حكومة الاحتلال نيّتها بجعلِ "الشّرق الأوسط" كلّه مرمًى لأهدافها الاستعماريّة، وبوقاحتها المعهودة، يحمل مجرمو حربها خريطة غرب آسيا ويتنقّلون بأصابعهم عليها، باعتبارنا شعوبًا "مستَعمَرة"، وباعتبارهم يمتلكون "الأحقّيّة" في السيطرة على عقولنا وأذهاننا ومواقفنا، ولأنّهم يعتبرونَ هذا كلّه، ولأنّ وراءهم ما يكفي من الدّعم الأميركيّ والغربيّ العالميّ، ولأنّ معهم ما يكفي من الأيادي العربيّة الملطّخة بالدّماء، لأجل كلّ هذا وأكثر، نقاوم.
يصعّد الاحتلال اليوم وحشيّته، وكلّ يوم، يعلن في قطاع غزّة إبادةً ممنهجةً على كلّ ما يوحي بفعلِ "العيش"، وعلى كلّ ما يتحرّك طلبًا للحياة، يعلن ويستمرّ، وتجتمع القمم العربيّة فلا تغيّر شيئًا، يجتمع "القادة" العرب، الحكومات الممثّلةُ لنفسها فقط، يدينونَ الحرب، يتغنّون بطلب "حلّ الدّولتين"، يحزنون قليلًا على عدّاد "القتلى"، على حدّ تعبيرهم، ثمّ يستكملونَ نقاشاتهم كأنّ شلال الدم قد توقّف فجأة.
يا لضعفنا، بل يا لتخاذلنا، لأنّ الضعف يأتي من عدم القدرة، أمّا التخاذل، فهو أن تمتلك القدرة فلا تفعل شيئًا، هذا التخاذل الأمميّ تشهده غزّة، تراه بعينيّ طفلٍ قُصفَ مستشفاه البارحة في وقتٍ متأخّرٍ من الليل، ولم يتحرّك لنجدته أحد.
غزّة الصّامدة، صامدةٌ بقوّة الله، لا ببياناتِ القمم ولا بإداناتِها، ولا بـ "تصدّيها" الوهميّ لتهديدات المحتلّ باجتياح "الشرق الأوسط" كلّه، ولا بتحرّكاتها التي لا تُرى، بل بالقوّة التي يبثّها الله فيها، لأنّ ما يجري اليوم بعدَ عامَين، لا يصدَّق حرفيًّا.
عامانِ من الإبادة، عامانِ من الموت، من القتل والذبح والمجازر والتجويع والحصار، عامانِ من الفقدِ والدّعاء، وعامانِ من التخاذل العالميّ، والاجتماعاتِ والإداناتِ والتطبيع والتّرهيب، عامانِ وأكثر، والحكومات العربية لم تفهم بعد، أنّ "إسرائيل" تسعى لبسط سيطرتها على كافة دولها، لا على قطاع غزّة فحسب.
عامانِ وأكثر، والكيان الإحلاليّ يسعى للسيطرة على كافة بلادنا، لأنّه استعماريّ توسّعيّ، ومع ذلك، وعلى الرّغم من وضوح النّوايا، بل وإعلانها رسميًّا، تستمرّ الحكومات بالتطبيع، والتخاذل، والإدانة النّظريّة، ويستمرّ المحتلّ بالإبادة، والتهديد، وبالتعامل معنا كشعوبٍ مستعمَرةٍ "لهُ" الحقّ في تقرير مصائرنا.
سنبقى على هذا الحال إن لم يتحرّك أحد، بل، سيتفاقم الحال سوءًا إن لم ترفع شعوبنا بأكملها رايةَ الرّفض وعدم الاستسلام لآلة الاستكبار العالميّ، وسيتفاقم الحال سوءًا، إن بقيت غزّة على هذا الحال، لأنّ هذه الإبادة لن تتوقّف عند حدود جغرافيا منطقةٍ معيّنة.
هذا كيانٌ توسّعيّ استعماريّ إحلاليّ، ونحن شعوبٌ لنا –لا لغيرنا- حقّ تقرير مصائرنا بأنفسنا، والحق في العيش على غرب آسيا كاملةً، لا في "شرقٍ أوسطَ" مهدّد، أمّا "حكوماتنا"، فأمام خيارين، إمّا الرّضا بالقتل والخضوع، وإمّا التّصدّي والوعي في هذه الحرب الكبرى، "والواعي في الحرب مقاتل"!