تكاد لا تصدّق بأنّ هناك شخصًا ما في هذا العالم لم "يقتنع" بعد بوجود إبادةٍ ممنهجةٍ في قطاع غزّة، حتّى يأتي تقريرٌ بعد عامَين من الحرب، يثبت رسميًّا المجاعة في غزّة، في الوقت الّذي تتفتّت فيه أجساد الأطفال النّحيلة من شدّة السّغَب.
يُستَشهَد الطّفل في غزّة اليوم وهو يتمنّى قنّينةَ حليبٍ أو حتّى كوب ماءٍ بارِد، ينظر بعينيه لهذا العالم الواسع فلا يجد من البيانات "الإنسانيّة" سوى التّغنّي بفعل الإبادة عبر إنكار الفاعل.
هذه غزّة، تعيش كوارثَ حقيقيّة، لا تحتاج إلى معاجم لشرحها، فالمشاهد كافيةٌ لتريك كمَّ الوحشيّة المنغمسة في أجساد جنود الاحتلال الإسرائيليّ الهمجيّ، الّذي يحاول بوحشيّته أن يُسقِطَ على الغزّيّين "طقسًا" يوميًّأ واحدًا يسمّى: إبادة.
إذًا، يحاصر الجوع الغزّيّ من جهة، والقصف يحاصره من الأخرى، ويترك له حرّيّة اختيار "كيفيّة" الموت، إمّا بلسانٍ جافّ ومعدةٍ فارغة، أو بأشلاءٍ مقطّعة.
ولا يكتفي الاحتلال بالقتل عبر التّجويع، بل يمتدّ طغيانه إلى تكريس فعل الاحتلال وتصعيده في غزّة، إذ أعلن منذ أيّام نيّته استنساخ عمليّة "عربات جدعون" واحتلال المدينة، والغزّيّون يعيشون على أملٍ يتخبّطُ بين تجويعٍ ومحاولةِ احتلال.
لا غروَ أنّ الصّمودَ هو أولى ما تتميّز به العائلات في القطاع، صمودٌ ليس كمثله آخر، وصبرٌ لا تهزّه القذائف -وهذا ليس تعبيرًا مجازيًّا فحسب- ولكنّ هذا لا يعني أنّ ما يحدث اليوم في القطاع هو "طقسٌ" يوميّ فقط لأنّ الصّبر طقسُ الأمّهات الغزّيّات اليوميّ.
إنّ ما يحصل في غزّة يفوق قدرة العقل البشريّ الطبيعيّ على تخيّل المشهد، الأشلاء مقطّعة على الأرض وفي كلّ دقيقةٍ تموت أحلامٌ جديدة، الدّماء تنغمس بالتّراب حتّى كأنّكَ لو لم تجد في بقعةٍ من الأرض دماءً لَصُعِقت.
البيانات، الاستعطاف، الشّفقة، الإنكار، وكلّ ما يشابه هذه المصطلحات، هو مجرّد تخاذلٍ مضاعف، فالمؤسسات الدوليّة المدافعة عن حقوق الإنسان تنحّي "إسرائيل" جانبًا حين تحكي عن الإبادة، أو ربّما إن تكلّمت عنها فإنها تصدر بيانًا يدعو إلى "وقف الأعمال القتالية بين الطّرفين".
بين المجاعة والاحتلال، كلّ ما يحصل تجاه غزّة من تصرّفاتٍ واهية هو تخاذل مضاعف، وليس قلّة حيلة، لأنّ المؤسسات "الإنسانية" هذه والحكومات "العربيّة"، لو اجتمعوا جميعًا لأجل طفلٍ في غزّة لَتَمَّ إيقاف الإبادة بقرارٍ واحد، ولكنّ الدماء التي سالت، ربّما، لم تُشبع لديهم غريزة السّفك والقتل.