اشتعل الوضع الميداني في مدينة غزة وضواحيها، منذ أن أعلنت حركة «حماس»، ومن خلفها فصائل المقاومة، الموافقة على مقترح المبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، والذي ينص على هدنة تستمر 60 يوماً، وتفتح الطريق أمام مفاوضات لإنهاء الحرب، مقابل تسليم المقاومة عشرة أسرى أحياء و18 جثماناً. ومساء أمس، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال، إيفي ديفرين، البدء بتطويق مدينة غزة وحصار في إطار ما سُمّي عملية "مركبات جدعون 2".
وقال ديفرين، في إحاطة صحافية، إن «الجيش بدأ بالعمل على تخوم مدينة غزة وتمهيد الطريق أمام البدء بعملية احتلالها»، موضحاً أن عملية «مركبات جدعون» الأولى أدّت دوراً تأسيسياً للعمليات البرية المُرتقبة. ويشير ذلك إلى أن النهج العسكري الذي ستمضي فيه العمليات المقبلة، لن يكون مغايراً لما شهده القطاع في الأشهر الأربعة الماضية، والذي يقوم على التدمير الشامل لجميع المنازل والمقدّرات العامة والبنى التحتية، وسينتج منه تحويل المدينة إلى كومة من الركام لا تسمح بعودة السكان إليها مجدّداً، تماماً كما حدث في محافظة شمال القطاع والأحياء الشرقية من مدينة غزة، الشجاعية والزيتون والتفاح.
هكذا، بدأ جيش الاحتلال، فعلياً، تطويق مدينة غزة من اتجاهين، الأول هو حيَّا الزيتون والصبرة جنوب المدينة، حيث تشهد المنطقة عمليات نسف وتدمير مكثّفة مع توغّلات محدودة؛ والثاني، هو مدينة جباليا البلد ومحافظة شمال القطاع، بعدما عاد «لواء جفعاتي» للعمل هناك. وشهد أمس تدمير عشرات المنازل وإخلاء مراكز الإيواء، توازياً مع توزيع منشورات لإخلاء المزيد من المربّعات السكنية في جباليا البلد.
ويفتح الإعلان عن بدء عملية احتلال مدينة غزة التي تؤوي نحو مليون إنسان، أكثر من نصفهم نازحون فعلاً من مناطق تمّ تدميرها في عملية «مركبات جدعون»، الباب على أزمة إنسانية مرتقبة، خصوصاً أن المناطق المنويّ توجيه السكان إليها في وسط القطاع وجنوبه، مكتظّة بالفعل بأكثر من مليون نسمة، وغير مهيّأة لاستقبال المزيد من النازحين. كما أن الأزمة تتجاوز المساحة الضيقة وغير المهيأة، إلى مشكلات أكثر تعقيداً، من بينها تكلفة النزوح المرتفعة من مواصلات ونقل، والفقر الشديد الذي يعيشه النازحون، والنقص الحادّ في الخيام ومتطلّبات الإيواء والبنية التحتية.
وبناءً عليه، من المتوقّع أن تبقى كتلة بشرية لا يقلّ تعدادها عن 500 ألف نسمة في المدينة وشمال القطاع أياً كانت الأخطار والتحديات.
وعلى طريق امتصاص ردّة الفعل الدولية المتوقّعة على الظروف الإنسانية التي ستخلّفها عملية احتلال المدينة، تقدّم وسائل الإعلام العبرية إغراقاً إخبارياً عن خطوات وإجراءات شكلية ليس لها أي رصيد على الأرض، من مثل توجيه وفد لصيانة مستشفى «غزة الأوروبي» في مدينة خانيونس لتشغيله لرعاية النازحين، وافتتاح نقاط طبية وعيادات جديدة في مناطق جنوب القطاع، وإدخال كميات كبيرة من الخيام بالتعاون مع الأمم المتحدة، فيما على الأرض، يتكرّر السلوك الإسرائيلي المعتاد، في الدفع بمئات الآلاف من النازحين إلى العراء والمجهول من دون أدنى رعاية.
وفي مقابل ذلك، أكّدت المنظمات الدولية، وفي مقدمتها «وكالة الغوث» و"مكتب تنسيق العمليات الإنسانية" (أوتشا) و"برنامج الأغذية العالمي" و"منظمة الصحة العالمية" أنها لن تخلي مدينة غزة، وستواصل تقديم خدماتها في أي مكان يبقى فيه الأهالي. وأعربت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» عن خشيتها من عملية احتلال المدينة، وأكّدت أن أهالي القطاع بحاجة إلى وقف إطلاق نار لالتقاط الأنفاس - بعدما سيطر الجيش الإسرائيلي على ما نسبته 75% من مساحة القطاع -، وليس حشر مليوني إنسان في مساحة ضيقة في ظروف إنسانية صعبة.
وفي مقابل الإرهاب النفسي والتصعيد الميداني اللذين يمارسهما جيش الاحتلال، تمكّنت المقاومة، أمس، من تنفيذ هجوم نوعي هو الأكبر والأول من نوعه منذ بداية الحرب - استمر ساعات متعددة -؛ إذ أغارت قوة من «كتائب القسام» قوامها فصيل عسكري كامل، أي ما يقارب 20 مسلحاً، على موقع عسكري مستحدث في مدينة خانيونس جنوب مدينة غزة.
ووفقاً لبيان «كتائب القسام»، فقد هاجم المقاومون الموقع واستهدفوا عدداً من دبابات الحراسة من نوع «ميركافا 4» بعدد من عبوات «شواظ» وعبوات «العمل الفدائي» وقذائف «الياسين 105». كما استهدفوا عدداً من المنازل التي تحصّن فيها جنود الاحتلال بقذائف مضادة للتحصينات والأفراد ونيران الأسلحة الرشاشة، ثم اقتحم عدد منهم المنازل وأجهزوا على جنود الاحتلال من مسافة صفر، وتمكّنوا أيضاً من قنص قائد دبابة وإصابته إصابة قاتلة. ودكّ المقاومون، كذلك، محيط الموقع المستهدف بقذائف الهاون لمنع وصول قوات النجدة، ثم تواصل القصف لتأمين انسحابهم من المكان. وفور وصول قوة الإنقاذ، قام أحد المقاومين بتفجير نفسه بالجنود، وأوقعهم بين قتيل وجريح.
وتناقلت وسائل إعلام عبرية مقطعاً مصوّراً أظهر محاولة أحد المقاومين إطلاق قذيفة مضادة للدروع في اتجاه دبابة «ميركافا»، قبل أن يتقدّم قائد الدبابة ويقوم بدهسه. وأحدث هذا المقطع جدلاً واسعاً في الإعلام العبري الذي اعتبره إشارة إلى حدوث التحام مباشر من مسافة صفر.
كما نقل مراسلون عسكريون إسرائيليون تفاصيل أكّدوا فيها أن المقاومين خرجوا من عدة فتحات أنفاق واقتحموا الموقع من غير جهة. وتساءل المراسل العسكري، أمير بوحبوط، في منشور عبر تطبيق «تلغرام»: "كيف يفسّر جيش الدفاع الإسرائيلي وصول مسلحي حماس إلى معارك وجهاً لوجه؟ أين منظومة الحماية وأين الاستخبارات؟ ما الذي انهار هنا؟ لماذا اضطرت دبابة ميركافا إلى سحق مسلح؟ كيف اقتربوا كثيراً من الدبابة؟ هل عيّن قائد قيادة الجنوب ضباط تحقيق؟".
وعلّقت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بدورها، على الحدث، معتبرة إياه فشلاً دراماتيكياً لـ"الشاباك" والاستخبارات العسكرية؛ وقدّرت أن مقاومي «القسام» كانوا يهدفون إلى أسر جنود، مؤكدة أن «العملية الأخيرة خطيرة جداً وتكشف ضعف الشاباك والاستخبارات العسكرية في المنطقة. اقتحام موقع عسكري بموجة كبيرة من المسلحين يثير قلقاً في شأن جاهزية الجيش لإدارة عملية السيطرة على مدينة غزة».