تبدو الخطّة الإسرائيلية الجديدة لاحتلال مدينة غزة، كما أعلن عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، امتداداً منطقياً لسياسة إدارة الحرب بوصفها حالة دائمة، أكثر من كونها وسيلة لبلوغ حسم محدَّد. يتبنّى نتنياهو خطاباً يَعد بالنصر المطلق من دون التورّط في تعريفه، ويضع أهدافاً قصوى يعرف أنها غير قابلة للقياس ولا يمكن حسمها بجولة أو حملة محدّدة، بل تُستخدم لشراء الوقت وتثبيت معادلة "ضغط بلا نهاية".
لكنّ جوهر المسألة لا يكمُن فقط في حسابات تل أبيب؛ فالهامش الذي تتحرّك داخله إسرائيل صُنع عربياً بقدرٍ لا يقلّ عمّا صنعته القوة الإسرائيلية أو المظلّة الأميركية. هنا، تصبح المساءلة عربية قبل أن تكون إسرائيلية: كيف أمكن لحربٍ مفتوحة أن تتحوّل إلى اختبار صارخ لفكرة الأمن القومي العربي، من دون أن ينتج عنها أثرٌ رادع، لا شعبيّاً ولا رسميّاً؟
يستند تواصل حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة إلى ثلاث ركائز متشابكة: غطاء دُولي عملي لا يفرض كلفة سياسية حقيقية على إسرائيل، وتفوّق عملياتي يسمح بتكرار «الجولات المركّزة» بدل الاحتلال الشامل، وبيئة إقليمية منزوعة المخالب تقتصر ردود الفعل فيها على فذلكة خطابية وديبلوماسية، تتمحور حول الجانب الإنساني أو وهم حلّ الدولتين.
الركيزتان الأولى والثانية مفهومتان ضمن موازين القوى والمصالح الحالية، أمّا الثالثة فهي بيت القصيد: فراغٌ عربي في الإرادة الإستراتيجية، لا يفتقر إلى الموارد أو أوراق القوة بقدر ما يفتقر إلى قرار يجمع بين التعريف الواضح للمصلحة القومية وأدوات الفعل الواقعية. إذ تُختزل قضية غزة في إدارة أزمة إنسانية، تفتقد فيها الدول العربية وشعوبها معاً القدرة على فرض كلفة تغيّر حسابات العدو، وتنحصر ردّات الفعل بإجراءات صورية لا تغيّر المسار، وإنما تُقرأ إسرائيلياً بوصفها ضوءاً أخضر لاستدامة المقاربة نفسها.
الخذلان هنا ليس شتيمة أخلاقية، بل توصيف لخلل بنيوي عميق، يتمثّل بالانفصام بين ما تعتبره الشعوب العربية تهديداً وجودياً وما تتعامل معه مؤسسات الحكم كأولوية أمنيّة. الشعوب العربية، التي لا يمكن التشكيك بحقيقة مواقفها العميقة والغاضبة تجاه ما يحصل في غزة، لم تستطع أن توظّف الغضب في حالة فعل مؤثّرة - باستثناء اليمن - إذ يبدو أنها خضعت أمام الحصار الذي تفرضه منظومات القمع الرسمية، سواء كانت قانونية أو أمنيّة أو إعلامية، والتي جعلت الفعل الشعبي عالي الكلفة ومنخفض المردود.
والأنظمة الرسمية، رغم أمنياتها بالاستقرار، رهنت أمنها - وربما وجودها - للنظام الدولي أكثر ممّا رهنته لتدابير ردع ذاتية أو منظومات تعاون إقليمي مستقلة. وفي حالات بعينها، لم يتوقّف الأمر عند التخاذل أو الصمت، بل تجاوز ذلك إلى مساندة مباشرة أو غير مباشرة لآلة الحرب الإسرائيلية، انطلاقاً من عداء عميق للمقاومة ولما تُحب بعض الأنظمة أن تسمّيه «الإسلام السياسي».
في هذا المنطق، تصبح جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين مجرد «أعراض جانبية» يمكن تجميلها بخطابات إنسانية أو إجراءات إغاثية شكلية، أو الهروب إلى الأمام بمبادرات سياسية غير ذات صلة مباشرة أو تأثير حقيقي يمنع الإبادة. بينما يُعاد تعريف التهديد ليكون المقاومة ذاتها لا إسرائيل، وكأنّ الأمن القومي العربي يُصان بتحجيم قدرة الفلسطيني على المقاومة لا بردع المحتل.
هكذا يُولَد شكلٌ من «إدارة الإبادة»، بحيث يُسمح للدم أن يسيل وللمقتلة أن تُصنع على مرأى من العواصم العربية، ويتمّ قضم المحرّمات تدريجياً، حتى يغدو السؤال مشروعاً: إذا أمكن القبول سياسياً ونفسياً بالإبادة الواقعة في غزة، وعلى مدار أكثر من 22 شهراً، فما الذي يمنع تَسرُّب منطق الحرب المفتوحة إلى أي ساحة عربية أخرى متى توافرت الذريعة؟
تداعيات ذلك على الأمن القومي العربي عميقة ومتراكبة:
أولاً، انهيار مبدأ الردع العربي ليس تجاه إسرائيل فحسب، بل تجاه أي فاعل إقليمي أو دُولي يقرأ خريطة الإقليم على أنها بلا رادع ولا حارس. فالردع لم يعد يُقاس بالصفقات المحمومة لشراء الأسلحة التي أتخمت بها الجيوش العربية، ولا بالحماية الأميركية وضماناتها، إذ أثبتت تجربة السنتين الماضيتين أنها ضمانات جوفاء ولا تصمد أمام المصالح الأميركية والإسرائيلية، وإنما بقدرة منظومات القرار على ترجمة التهديد إلى كلفة محسوسة وقابلة للتطبيق عملياً.
ثانياً، التفكّك المفاهيمي. إذ غاب التعريف المشترك لماهيّة «العدو» ولما يعنيه «النصر» أو «الهزيمة»، بل وحتى في تعريف «الخطر» وتحديد التهديدات التي تنطوي عليها آلة الحرب الإسرائيلية على المنطقة، خصوصاً مع ما توفّر للعدو من أدوات أثبتت فعاليّتها في شنّ الحروب الهجينة وإطباق الحصار والتحكّم بالمعلومات، بل واختراق منظومات الأمن لدى الخصم. فحين تختلف العواصم العربية على تعريف الهدف يستحيل بناء أدوات تحقيقه.
ثالثاً، تآكل شرعية الدولة الوطنية. فالدولة التي تعجز عن مواءمة نبض شعوبها مع سياساتها في قضية بحجم غزة تفقد جزءاً من عقدها الاجتماعي، وتستبدله بإدارة أمن داخلي تتوسّل فيه القمع والسجون علّها تطفئ الحرائق يوماً بيوم.
رابعاً، انتقال الخطر من الجبهة العسكرية إلى البنية المدنية، التي تستهدف أمن المجتمعات وتماسكها، وهي أدوات تحسن إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة استثمارها لتطويع الذئاب المنفردة من الدول، عبر الضغوط الاقتصادية والاستثمار في الخلافات السياسية والفوارق الثقافية والعرقية والطائفية، وعبر حروب الرواية، وهذه الأخيرة من أخطر ما تواجهه المنطقة في ظلّ ظاهرة الانفجار المعلوماتي التي تستبيح الحدود التقليدية للدول، وتُحدث سيولة يصعب التحكّم باتجاهاتها.
هذه ساحات لا يمكن حسمها دون الاعتراف بالخطر الصهيوني والتعامل معه على ما هو عليه، لا وفق ما يتمنّى البعض أن يكون، ولا يمكن حسمها دون تحصين الداخل، وحتى الإقليم، بمصالحات تاريخية تؤمن بأنّ التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية والعرقية، وحتى النزاعات الإقليمية، تبقى هامشية أمام الخطر الحقيقي الذي يمثّله المشروع الصهيوني على كل المنطقة.
لا يعني ذلك أنّ البدائل سهلة أو بلا كلفة. لكن بين الـ«الحرب» و الـ«لا حرب» توجد طبقة واسعة من السياسات القابلة للفعل، تبدأ، وقبل كل شيء، بوقف العلاقات والتحالفات المخزية والمذلّة مع العدو، المعلنة منها وغير المعلنة، واستبدالها بمظلّة أمنٍ إقليمي تشاركي، تحقّق معادلة تضبط إيقاع العلاقة مع «الحلفاء» الغربيين، انطلاقاً من الموقف من الحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة، بدل الارتهان لها، مروراً بأدوات ضغط قانونية واقتصادية وسياسية عابرة للحدود، وديبلوماسية نشطة تُفرّق بين المساعدة الإنسانية بوصفها واجباً أخلاقياً، وبين تحويلها إلى صكّ براءة للفاعل العسكري في ذروة الإبادة، وصولاً إلى التصعيد الميداني – شعبياً وعملياتياً – بحيث تُحوِّل الانتهاكات إلى كلفة مستدامة. هذه ليست «فذلكات إعلامية»، بل أبجديات أمن قومي في عالم تُدار فيه الحروب بالسياسة والاقتصاد والقانون والرأي العام، بقدر ما تُدار بالنار.
في المقابل، تراهن الخطة الإسرائيلية على الزمن، كل شهر إضافي يرسّخ سابقة جديدة، ويجعل الاستثناء طبيعياً، ويُحوِّل «غير الممكن أخلاقياً» إلى «ممكن سياسياً".
هنا بالضبط يتكثّف الاختبار العربي. ليس مطلوباً إعلان حرب ولا تبنّي شعارات كبرى، بل كسر أعراف العجز؛ أن يُعاد تعريف ما يعدّ «خطّاً أحمر» عربياً، وأن تُربط السياسات الثنائية والمتعدّدة الأطراف بهذا التعريف عملياً، وأن يُعطى الرأي العام مساحة للفعل الشعبي المؤثّر بدل دفعه إلى اليأس أو الفوضى. من دون ذلك، سيبقى الدم قابلاً للسيل في أي عاصمة عربية، بالمعنى الإستراتيجي لا الحرفي، حيث تُدار ساحاتها كميادين ضغط وتجريب بلا ردع، وتُختزل سيادتها في القدرة على امتصاص الصدمة لا على منعها.
خطة نتنياهو لن تُنهي المقاومة في غزة، ولن تعيد كل الرهائن بالقوة، ولن تعكس نتائج 7 أكتوبر وما تلاها على منظومة الردع الإسرائيلية وتماسك بنية المجتمع الإسرائيلي أو صورة إسرائيل في العالم، لكنها تراهن على هشاشة الإقليم لتصنع «نصراً بالتقادم»، وتخلق واقعاً تسود فيه خيارات إسرائيل متى أرادت ذلك.
المساءلة العربية، شعوباً وأنظمة، ليست ترفاً أخلاقياً بل شرط للبقاء؛ فالأمن القومي لا يُصان بالغضب وحده ولا بالنوايا والتمنّيات، بل بمنظومات قرار ترى أبعد من نشرات الأخبار، وتبني كلفة سياسية واقتصادية وقانونية وحتى ميدانية تجعل استمرار الحرب أقلّ جدوى من إيقافها. ما دون ذلك هو استمرار للسقوط في قاعٍ يتّسع كلّما اعتدنا عليه، حتى يغدو القاع بلا نهاية
* كاتب فلسطيني.