وكالة القدس للأنباء - متابعة
لم تَعُد الحرب الإسرائيلية محصورة في قطاع غزة، بعدما باتت تُخاض في تل أبيب أيضاً، بين المؤسستَين السياسية والعسكرية، اللتين ما فتأتا تتصاعد خلافاتهما حول مصير الحرب. وبصراحة غير معهودة، أضحى الجيش يتحدّث عن إنهاكه وعدم قدرته على احتلال مدينة غزة من دون أن يدفع أثماناً كبيرة جداً تفوق الفائدة من جرّاء ذلك، فيما تضع حكومة بنيامين نتنياهو نصب عينيها «الانتصار المطلق»، مهما تعاظمت الأثمان. وتلك، طبعاً، ليست مجرّد خلافات في الرأي، بل صراعٌ مفتوح على «مَن يسيطر ومَن يقرّر»، واستتْباعاً إلى مستقبل أمن إسرائيل وكيفيّة تحقيقه.
وفي هذا الإطار، عمدت المؤسسة العسكرية، في الأسابيع الأخيرة، إلى تسريب تقارير تُظهر للجمهور الإسرائيلي واقعاً صادماً، تتصدّره مشاهد جنود يجمعون تبرّعات مالية لشراء خوذات، سعر الواحدة منها لا يتعدّى الـ300 دولار وآباء يشترون لأبنائهم معدّات يؤكّدون أنّ الجيش لا يوفّرها لهم، فيما المعدّات والآليات تتعطّل بسبب الاستخدام المفرط والتآكل. أمّا الوحدات القتالية، فتقاتل بوسائل بالية من دون أيّ حماية فعّالة من الرصاص والقذائف الصاروخية. كما تتحدّث تقارير عن إنهاك الجنود وتعبهم وتوجّههم إلى الانتحار والتهرّب، في ظلّ غياب حافزية الالتحاق بالاحتياط والاستدعاءات واللجوء المفرط إلى عيادات الطبّ النفسي.
فهل في ذلك تهويل ومبالغة؟ الواقع لا؛ بل هذا ما يجري فعلًا على الأرض ويتمّ لأسباب مختلفة تظهيره علناً، خصوصاً من جانب الجيش وهو ما يطرح السؤال عن خلفية تلك الفضائح؟ صار واضحاً أنّ المؤسسة العسكرية غاضبة على اتخاذ قرار احتلال مدينة غزة، رغم معارضتها له وتحفّظاتها عليه وهو ما يُعدّ من الحالات الاستثنائية في تاريخ بلورة القرارات الأمنية - العسكرية في إسرائيل. لكنّ الجيش الذي فقد مصداقيّته بعد فشله في توقّع هجوم السابع من أكتوبر وإخفاقه في التصدّي له، لم يَعُد صوته مسموعاً في الغرف المغلقة.
مع ذلك، يعلي الجيش صوته للتأكيد أنّ «القدرة القتالية باتت منهارة» وأنّ توسيع العمليات العسكرية وأيّ خطط احتلال كبيرة، ستكون «كارثية». ومن هنا، كانت رسالة رئيس الأركان، إيال زامير، لدى اتخاذ القرار وبعده الإحاطة الإستراتيجية، واضحة جدّاً: الجيش بحاجة إلى استراحة، استعداداً "لِما هو أعظم".
ووفقاً لزامير، فإنّ «الجيش كرجلٍ جريح يقف على قدميه ويحتاج إلى إعادة تأهيل»، أي وقف القتال في غزة، وإلغاء خطط احتلال المدينة، والدفع نحو مسار تسووي ديبلوماسي؛ فيما يجب التركيز مسبقاً وبشكل عاجل على تهديدات كبرى باتت تلوح في الأفق: إيران و«حزب الله»، اللّذان سيسعيان إلى تغيير نتائج المواجهة معهما. وكما يرد من مصادر عسكرية إسرائيلية، فإنّ إسرائيل تدرك أنّ الكلمة الأخيرة في الحرب ضدّ إيران والحزب، لم تُقلْ بعد.
في المقابل، ترفض المؤسسة السياسية بقيادة نتنياهو توجّه الجيش وتسعى إلى السيطرة على قراره وجعله أداة تنفيذية للسياسة وليس شريكاً إستراتيجياً كما كان الحال من قبل. ويفسّر ذلك السّجال الأخير والمستمرّ بين وزير الأمن يسرائيل كاتس المدفوع من نتنياهو وزامير الذي يقف خلفه كبار ضباط الأركان وتحديداً بعد قرارات ترقية الضباط ومناقلاتهم والتي رفض كاتس تمريرها، لأنّ «السلطة لي والقرار لي»، كما قال.
على خطّ موازٍ، تجري محاولة إنعاش المسار التفاوضي في القاهرة، بدعم أميركي - مصري - قطري، وإنْ كان من المبكر تقدير ما سينتج من ذلك، خصوصاً أنّ المسألة الآن لا تتعلّق فحسب بصيغة هدنة مؤقّتة واتفاق جزئي، بل بوقف إطلاق نار مستدام وتبادل أسرى دفعة واحدة وانتشار قوات عربية ودولية لحفظ الأمن، وترتيبات لليوم الذي يلي وقف الحرب. وإذ لا توجد مؤشرات إلى تقارب حقيقي حول النقاط الجوهرية وعلى رأسها مصير «حماس»، نزع السلاح من غزة، وطبيعة الحكم في القطاع ما بعد الحرب، يَظهر، ممَّا يتسرّب من المحادثات، أنّ الحركة تبدي، للمرّة الأولى، مرونة تجاه وجود قوات دولية وعربية في غزة، مع قبول حكومة انتقالية، وإن كانت تتحفّظ على مسألة «نزع» السلاح.
إذاً، يمضي المسار التفاوضي في موازاة الخيار العسكري، بينما لا تزال النتيجة، إلى الآن، غامضة، وإنْ كان كلّ طرف يضغط لتحسين تموضعه وتوجّهاته: الجيش الإسرائيلي عبر الكشف عن التآكل والإنهاك واللّاجهوزية بما يفيد مسار الوصول إلى تسويات؛ حكومة نتنياهو عبر الدفع في اتجاه التصعيد والتمّسك بالاحتلال؛ والوسطاء من طريق إخراج مبادرات يمكن أن تجد ليونة و«تفهمّاً» لدى «حماس».