/مقالات/ عرض الخبر

تحرير الوعي

2025/07/30 الساعة 01:17 م

راغدة عسيران

حرب الإبادة الجماعية مستمرة في قطاع عزة، بطرق مختلفة، منذ أكثر من 650 يوما. ينتقل سياسيو وإعلاميو العالم ومنظمات وأحزاب، والناس إجمالا، من مفردة الى أخرى للتعبير عن إحدى مراحل حرب الإبادة، وتختفي مفردات كانت حاضرة قبل الحرب وخلال إيام الإبادة. يتحدث العالم اليوم عن "المساعدات" (أنواعها، كيفية وصولها، غير كافية، سرقتها) و"التجويع" وضحاياه، وقبله كان "النزوح القسري" والخيم حيث أصبح المشهد عاديا، وقبله "القصف" والتدمير الممنهج، والاعتقال والتعذيب.

يتفنّن السياسيون الغربيون وملحقاتهم الدولية والعربية، وكذلك الإعلام الغربي وملحقاته العربية، في التركيز على آخر مفردة لنسيان السابقة أو إلغائها، وكأن الوضع الحالي منفصل عن سياقه العام، حرب الإبادة والاحتلال والحصار واستيطان فلسطين. قلة هم من يعود الى السياق، لتوضيح صورة الحرب الهمجية بكل تفاصيلها ومعناها الحقيقي، حرب تقتل أهل قطاع غزة وتدمّر كل مكوّنات الحياة فيه، وتقتل أهل فلسطين عموما في سياق حرب استعمارية تنفّذها الآلة الحربية الأميركية-الصهيونية على أرض فلسطين، على أرض عربية-إسلامية ترفض الاستسلام والاختفاء والموت.

من أجل منع الوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته الشجاعة، يتفنّن الغرب الاستعماري في طمس الحقيقة، ويتلاعب بالمفردات والحقائق للتقليل من أهميتها وارتدادتها الحتمية على العالم (ما زال يناقش القاتل وداعموه مفاهيم الإبادة والمجاعة والتجويع وإذا كان العدو يقترف فعلا هذه الجرائم اليوم)، ويشوّه صورة المقاومة (كما هي طبيعة الاستعمار المتوحّش)، ويسعى لطمس تاريخ المنطقة وشعوبها ويحاول إعادة صياغتها لتكون متجاوبة مع سيطرة الكيان الصهيوني على شعوب المنطقة ودولها

تحرير الوعي يعني نفض كل هذا التراكم من المفاهيم والمفردات التي اجتاحت ساحتنا والعودة الى الأساس، وترتيب الأولويات ضمن الصراع المتواصل بين الغرب الاستعماري وشعوب الأمة، كما يعني التخلصّ من الأوهام التي بثها الغرب الاستعماري وأدواته السياسية والثقافية لإعاقة التمرّد والانتفاضة والثورة والتسلّح بالفكر الأصيل النابع من تجربة شعوبنا التاريخية.

العودة الى أساس الصراع الذي يتطلب وحدة شعوب الأمة من أجل تحرير فلسطين والقدس وتحرير الدول العربية من السيطرة الأميركية والغربية الاستعمارية. منذ اتفاقيات أوسلو، صاغت الدول العربية مناهجها التعليمية على أساس تكريس فصلها عن فلسطين، وتعاملت الأحزاب والقوى السياسية على أساس أن فلسطين مسألة "علاقات خارجية" لدولها وليست قضية مركزية للأمة، وإن نادت أحيانا بهذا الشعار الذي لم يترجم فعليا.

العودة الى الأساس هو اعتبار فلسطين أرض مغتصبة من قبل كيان استيطاني يجب إزالته، ورفض كل الإملاءات الغربية والدولية التي تسعى الى إدامته وتكريسه في الميدان والفكر والثقافة. ورفض أيضا التعامل مع قضية صراعنا مع العدو وفقا للغة القانون والحقوق، وهي لغة صاغها الغرب الاستعماري لمنع تحرّر الشعوب من هيمنته. من "القانون الدولي" الى "حقوق الانسان والطفل والأقليات"، كلها أدوات قانونية ابتدعها الغرب الاستعماري لمنع التحرّر وهندسة العالم وفقا لمصالحه. لكن تتعامل معها دولنا المسيطر عليها، وكأنها كتاب مقدّس ترددها يوميا وتنحني أمامها. أين هو القانون الدولي الذي تريد منا هذه الدول الاستعمارية أن نحتكم اليه في سعينا الى التحرير ؟ هل ندّدت الدول الغربية مؤخرا بالعدوان الهمجي على إيران ؟ هل ندّدت بجريمة "البيجر" في لبنان ؟ هل ندّدت بالقرصنة الصهيونية في المياه الدولية؟

العودة الى الأساس يعني وجوب توحيد جهود شعوب الأمة من أجل التحرير، وليس فقط من أجل إنقاذ "المجوّعين" في غزة اليوم، ورفع الحصار منذ سنوات، فهي خطوات مهمة في سياق الهدف الأساسي، وهو تحرير فلسطين ودول الأمة من السيطرة الغربية المتوحشة.

بالنسبة للأوهام التي بثها الغرب المتوحّش في تاريخه والعنصري في فكره، وما زال يبثها عبر إعلامه والمتحدثين باسمه، والتي يجب التخلص منها لتحرير الوعي :

وهم سيادة الدول العربية على أرضها، الذي يراد تعميمه في شعار "... أولا" الذي يعني قبل كل شيء قطع العلاقة الأخوية مع الشعب الفلسطيني وتركه يواجه وحيدا الغزو الصهيو-أميركي المتوحّش. شعار "... أولا" الذي أصبح يتغنى به كل المستسلمين للغرب الاستعماري يعني "المصالح الأميركية أولا" في كل دولة عربية تتبنى هذا الشعار المضلّل. يراد من هذا الشعار ان تنتهج الدول العربية مسارا منفصلا عن القضية المركزية للأمة، التي تذكر فقط في المؤتمرات والندوات.

وهم التناقض بين سياسة الولايات المتحدة وسياسة الكيان الصهيوني. التناقضات جزئية ومرحلية لحفظ وجه الدولة الأميركية كوسيط أو كقوة تريد بث "سلامها" والديمقراطية بالقوة والانقلابات، في العالم، لكن خطة السيطرة على المنطقة خطة أميركية بالأساس، تنفّذ "إسرائيل" الجزء الوحشي منها، ما يعني ضرورة مواجهة السياسة الأميركية في كل دولة عربية.

وهم التمييز بين المستوطنين الجدد والقدامى، المتديّنين والعلمانيين، وبين الجيش الصهيوني والمستوطنين، كما تفعل بعض الدول الأوروبية الآن من أجل تبييض تاريخها الإجرامي بحق الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة. تميّز هذه الدول بين المستوطنين المتوحشّين والقتلة الذي يشنون حربا دموية على فلسطينيي الضفة الغربية والقدس، ويستبيحون المسجد الأقصى والمقدسات في فلسطين، وبين المنتسبين الى المؤسسات "الرسمية" الصهيونية كالجيش والشرطة، علما أن ممارسات القتل والسرقة والذبح والتعذيب ممارسة اعتيادية لدى كل صهيوني، أكان يعيش في الأرض المحتلة عام 1948 أم 1967، أكان يمارس ساديته في قطاع غزة أم في القدس. يروّج الغرب وتابعوه في عالمنا العربي أن بعض الدول "المتنوّرة" فرضت عقوبات على بعض المستوطنين وتصفهم بالإرهاب، لكن ترسل في نفس الوقت أسلحة لجيش المستوطنين.

وهم الاعترف بالدولة الفلسطينية في سياق "حل الدولتين"، الوهم الذي تبيعه اليوم دول أوروبية التي فضّلت مواجهة العدو بإطلاق شعار ووهم كي لا يتم محاسبتها على مساهمتها الرسمية ومشاركة شركاتها المختلفة والمئات من مواطنيها في حرب الإبادة، بدلا من فرض عقوبات فعلية على كيان العدو. فمبادرة الاعتراف الرمزية تزعج العدو الصهيو-أميركي، ومن المضحك فعلا توالي التصريحات للتأكيد على أن الاعتراف جاء للحفاظ على أمن "إسرائيل"، وهذا هو الأهم بالنسبة لهم.

وهم حيادية المؤسسات الدولية، التي سيطرت عليها الولايات المتحدة أو التي تخشى عقوباتها. لم تتجرأ أي مؤسسة دولية تعمل بالمجال الانساني، لا في إدخال المساعدات الى قطاع غزة ولا في إدانة صريحة للعدو الصهيو-أميركي وتحميله مسؤولية التجويع والمذابح. هل نحن أمام كارثة طبيعية (جفاف، هزة أرضية؟) أم كارثة من صنع كيان استيطاني يعمل لتنفيذ خطة أميركية، قرّر الذبح والتدمير في سعيه لتهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه ؟

وهم الشرعية الدولية، التي وافقت على غزو فلسطين وتهجير شعبها، وعلى احتلال أراضيها رغم قرارات أصدرتها في حينها، والتي وافقت على احتلال أراض عربية وقصف دول عربية، وشن حرب إبادة على أهل قطاع غزة، وتعذيب الأسرى وتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية. بالنسبة للشعوب الحرة، الشرعية هي شرعية المقاومة من أجل تحرير فلسطين.

في كتابه "أشرف البعلوجي"، يسرد الشهيد يحيى السنوار ما وصل اليه المجاهد بعد التفكير في أسباب كراهية الصهاينة للبشرية بالقول : "هذه الأسئلة وملايين مثيلاتها لم تعد تعنيني من قريب أو من بعيد وإني على سؤال واحد هو ماذا نريد نحن من وراء كل هذا ؟" واليوم، نعرف ماذا يريد أعداؤنا. هل نعرف ماذا نريد ؟ هل نريد الحرية وطريقه المقاومة أم العبودية وطريقه الاستسلام للعدو الصهيو-أميركي ؟

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/218133