على نحوٍ مفاجئ، وأمام ضغط عالمي غير مسبوق، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي البدء في سلسلة خطوات من شأنها كسر حلقة المجاعة التي وصلت وفق تقييم «وكالة الغوث» إلى المرحلة الخامسة. وكانت طليعة تلك الخطوات عملية إنزال جوي للمساعدات وسط ظلام الليل الحالك، حيث ألقت طائرات إسرائيلية سبع مظلّات فوق مخيم للنازحين في منطقة الكرامة شمال غرب مدينة غزة، حيث تسبّب سقوط إحدى الحاويات على خيمة تؤوي عائلة نازحة بإصابة 11 مواطناً بجروح متفاوتة. وتزامن ذلك مع إعلان العدو، للسبب نفسه، "وقف نار إنساني" يبدأ من الساعة العاشرة صباحاً ويستمر حتى الثامنة مساء في المناطق التي من المقرّر أن تمر منها شاحنات المساعدات غربي المدينة.
وأمس، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بإعلانات من لجان الإغاثة في الدول العربية، وفي طليعتها مصر والأردن، عن البدء بتسيير قوافل برّية إلى القطاع وعمليات إنزال جوي، غير أنّ ما حدث أمس كان مخيّباً للآمال، إذ لم يلتزم جيش العدو بالهدنة الإنسانية التي أعلن عنها. وشرع، منذ ساعات الصباح، في ارتكاب عدد من المجازر بحق العائلات النازحة في الحيّز الجغرافي الذي صنّفته خريطة الجيش كـ"منطقة بيضاء آمنة".
وكانت البداية مجزرة بشعة بحق عائلة داخل شقة سكنية في حي الرمال وسط مدينة غزة، ثم أخرى بحق منتظري المساعدات في منطقة «زيكيم» شمال القطاع، قضى فيها 13 شهيداً وأصيب العشرات. أمّا بالنسبة إلى قوافل المساعدات البرّية، فقد استغرق تفتيش ودخول 28 شاحنة نهاراً كاملاً، قبل أن تتعرّض هذه الشاحنات للسرقة والنهب.
ذلك بأنه كان من المفترض أن تتولّى شركة أمن وحماية خاصة مهمة تأمين وصول المساعدات إلى مخازن المؤسسات الدولية، غير أنّ جيش العدو فرض مسارات عبور الشاحنات من مناطق مكتظّة بالجوعى، ولم يسمح بعبورها من طرق آمنة. كما لم يسمح لوحدات التأمين العشائرية بالقيام بمهمة التأمين، وأقدم على ارتكاب مجزرة بحق أفرادها. ووفقاً لبيان «الهيئة العليا للعشائر»، فقد تسبّب استهداف العناصر العشائرية باستشهاد 10 شبان وإصابة آخرين.
المشهد ذاته تكرّر، أمس، إذ دخلت العشرات من الشاحنات بالطريقة نفسها، وفق التعليمات الإسرائيلية بمنع وصولها إلى مخازن المؤسسات الدولية وتهيئة كل الظروف التي تفضي إلى سرقتها. ولذا، سُرقت 15 شاحنة مساعدات مصرية بالقرب من محور «نتساريم»، والعشرات من الشاحنات الأخرى جنوب قطاع غزة، فيما لم تنجح وحدات التأمين العشائرية سوى في تأمين 10 شاحنات في شمال القطاع.
وفي غضون ذلك، سمح جيش الاحتلال بوصول 78 شاحنة من البضائع التجارية، احتوى بعضها لأول مرة منذ أشهر على أصناف من الفواكه التي عُرضت في الأسواق الشعبية بأسعار تفوق قيمتها الحقيقية بالنسبة إلى 99% من السكان، حيث بيع كيلو المانغا بـ70 دولاراً وكيلو الليمون بـ30 دولاراً وكيلو الكمثرى بـ70 دولاراً، فيما ارتفع سعر كيلو الدقيق ليصل إلى 17 دولاراً، وكيلو البندورة إلى 30 دولاراً، وفُقدت المعلّبات وباقي المنتجات من الأسواق.
وتزامنت الخطوات الإسرائيلية مع ضغط دولي هو الأشدّ والأقوى تأثيراً منذ بداية الحرب، رأى فيه الاحتلال ورقة قوة بيد حركة «حماس»، فقرّر العمل على نزعها من دون وضع حلّ حقيقي للمجاعة.
ومن هنا، لوحظ في السلوك الإسرائيلي خلال اليومين الماضيين، ما يلي:
- تغطية إعلامية غير مسبوقة لعملية دخول الشاحنات من معبر رفح، شارك فيها الإعلام العربي الرسمي.
- تضخيم عمليات الإنزال الجوي، والإعلان عنها من منصات جيش الاحتلال الرسمية.
- تحييد الحديث عن «مؤسسة غزة الإغاثية»، وأي دور لها في بيانات الخطوات الإنسانية.
- محاولة توريط منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ورمي الكرة في ملعبها، باعتبار أنّ إسرائيل فعلت ما عليها، ووفّرت مسارات آمنة، ووقفاً مؤقّتاً لإطلاق النار.
- بالتوازي مع ما سبق، تحكّمت إسرائيل بشكل عميق في عملية دخول المساعدات، ففيما كان من الممكن إدخال 600 شاحنة في اليوم، تذرّعت بعمليات التفتيش الدقيقة ولم تسمح إلا بمرور 40 شاحنة وهو المعدّل المعتاد قبل الخطوة الإعلامية.
- فرض جيش الاحتلال على سائقي الشاحنات مسارات غير آمنة؛ إذ كان من الممكن أن تتولّى شركة تأمين دولية أو محلّية المهمة، إلا أنه لم يُسمح لأي جهة تأمين بمرافقة الشاحنات أو تغيير مساراتها بما يضمن وصولها إلى المخازن بغرض التوزيع العادل.
بالنتيجة، يمكن القول إنّ جيش الاحتلال اتّخذ خطوة «إعلامية» لا تعكس الواقع، بالنظر إلى أنّ كمية المساعدات التي دخلت لا تكفي لحارة واحدة أو مخيم صغير في حال تم توزيعها بشكل آمن ومنصف. كما أنّ آلية دخول المساعدات وتهيئة الظروف الميدانية لسرقتها، تؤكّد أنّ العدو يضبط هذا المسار بحيث تأخذ المساعدات طريقها إلى السرقة والبيع بأسعار تتجاوز قدرة الأهالي الجوعى.