طوابيرٌ طويلة ترى أولها ولا ترى لها آخر، تصطف فيها جالونات المياه الفارغة خلف بعضها في انتظار شاحنات المياه علَّها تكون هذه المرة صالحة للشرب، في أزمة قُرعت أبوابها منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة واشتدت في الآونة الأخيرة، لتكون سلاحاً آخرَ ووجهاً من وجوه الإبادة الإسرائيلية في القطاع.
وتشير المعطيات الحقوقية إلى أن أكثر من 96% من المياه في قطاع غزة غير صالحة للشرب، في ظل انهيار كامل للبنية التحتية، وإغلاق المعابر والتعنت الإسرائيلي في إدخال الوقود لتشغيل ما تبقى من محطات للتحلية.
وتُحكم سلطات الاحتلال الإسرائيل حصار قطاع غزة وإغلاق المعابر منذ الثاني من مارس/ أذار الماضي، ما تسبب بأزمة تعطيش وتجويع بلغت ذروتها خلال الأسابيع القليلة الماضية.
"ليست الأزمة الأولى"..
الشابة رؤى القطاع كان لها مع أزمة المياه حكايا كثيرة، فلم تنسَ بعد كارثة "التعطيش" في المجاعة الأولى شمال قطاع غزة، حيث كانت مياه البحر هي المصدر الأقل ضرراً للحصول على المياه.
وتروي "القطاع" لـ"وكالة سند للأنباء"، لا تتوفر المياه "الحلوة" بشكل يومي ولا نحصل عليها دائماً، وإنْ توفرت فإن أزمة طوابير المياه واحتياج المواطنين لها، يحول دون حصولك على أكثر من جالون في اللحظة.
وتُبيِّن لمراسلتنا أن الصغار والكبار، رجالاً ونساءً يصطفون أمام شاحنات المياه، وبعضها قد خُلِط طعمه، وآخر لا تُعرف مدى نظافته، مؤكدةً أن هذه الأزمة متواصلة منذ الأيام الأولى للحرب، وقد ازدادت حدتها في الآونة الأخيرة.
وتؤكد في حديثها أن المياه تسببت لأطفال عائلتها بأمراضٍ معوية، موضحةً:" أولاد إخوتي الصغار بمناعتهم الضعيفة وأجسادهم الهزيلة، تعرضوا لنزلات معوية وإسهال نتيجة تلوث المياه"، مستذكرةً مثلاً شعبياً "ضرتبين على الرأس توجع.. لكن بنحاول نعيش"، في إشارة إلى أزمتي التجويع والتعطيش اللتين وقعتا على رأس المواطنين في آن.
وفي حين كان قدوم الشاحنات خلال أيام متقاربة، إلا أن الفرصة لا تسنح لك كل يوم أن تشرب مياهاً نظيفةً، غير أنها ليست بالمجان، كما وصفت ضيفتنا هنا أبو شعبان.
وتروي "أبو شعبان" النازحة من حي الشجاعية إلى مدينة الرمال وسط مدينة غزة لـ"وكالة سند للأنباء" أن سيارات المياه تزور المنطقة من حين لآخر لتعبئة المياه لأهالي الحي بمبلغ 4 شواكل للجالون الواحد، والذي يشكل ضعف المبلغ المعتاد، مضيفةً "ويا ليتها تصلح للشرب".
وتُحدثنا أن المياه تحتوي على طعم "الكلور" "فلم نستطع أن نتجرعها، وإذا أردنا أن تضعها مع الطعام أو الشاي، فيطغى الطعم السيء، بينما تشعر أنك تشرب تلوثاً وليس مياهً، ليست المياه التي اعتدنا عليها دائماً".
وتُشير إلى أن أزمة المياه لم تغب حتى تظهر من جديد، فقد تشكلت هذه الأزمة منذ اليوم الأول لحرب الإبادة على قطاع غزة، مضيفةً:" إذا أردنا تعقيمها بالغلي، فإنها ستتلوث من رماد النار ويتحول طعمها إلى دخان، وكلها أزمات مركبة".
وتزيد: " والدي يبلغ من العمر 61 عاماً، وإخوتي مغتربين، ما يضطر جاهداً أن يحمل جالونات المياه على مراحل لإيصالها إلى الطابق الثالث من العمارة التي نقطنها"، مؤكدةً " هذا تعب كبير على صحته، فكيف بمجاعة وطاقة معدومة"؟
ولا يختلف الحال عن الشاب عماد أبو عبد الله (47 عاماً) أحد النازحين في مخيمات النزوح بمدينة غزة، والذي يحتاج لتعبئة المياه بشكل يومي لتلبية احتياجات عائلته وأطفاله من المياه.
يقول "أبو عبد الله" لـ"وكالة سند للأنباء"، "نحن في فصل الصيف، واستهلاكنا اليومي للمياه أكثر من أي وقت آخر"، مضيفاً:" نحن نتعرض لتجويع وتعطيش، فلم يبقَ لنا غير الماء بديل في ظل غياب الطعام".
ويزيد أنه في كل مرة تأتي فيها شاحانات المياه، سرعان ما تفرغ بسرعة قبل أن يأتي دوره للتعبئة؛ في ظل الاحتياج المتزايد وأزمة المياه، "وفي حين وصلني الدور لا أستطيع تعبئة أكثر من جالون".
وبنبرة مُلئت بقهر الرجال يتساءل:" إذا كان الطعام بالكاد نحصل عليه وأحياناً يمر اليوم دون أي زاد وأحاول الهروب من نظرات جوع أطفالي، فهل سأقول لهم أيضاً لا توجد مياه ولا أستطيع توفيرها"؟
عجز في 75% من الآبار..
وبهذا الصدد، يؤكد المتحدث باسم بلدية غزة عصام النبيه أن حالة من العطش الشديد تجتاح مدينة غزة، حيث بلغ إجمالي واردات المياه التي يتم صخها إلى المدينة 12% فقط.
ويوضح "النبيه" في حديثه لـ"وكالة سند للأنباء" أن إجمالي أضرار قطاع المياه في مدينة غزة تجاوز الـ 75% من إجمالي الآبار المركزية التابعة للبلدية، بالإضافة إلى تضرر أكثر من 100 ألف متر طولي من شبكات المياه "بشكل كبير جداً".
ويُضيف أن مدينة غزة وحدها كانت تضم 80 بئراً قبل حرب الإبادة، بينما تعرض 63 بئراً منها لأضرار إما كلية أو جزئية نتيجة القصف الإسرائيلي المتواصل، بينما يعمل حاليا أقل من 30 بئر بساعات قليلة، في ظل شُح ونفاد الوقود.
ويلفت "النبيه" النظر إلى أن نصيب الفرد من المياه أقل من 5 لترات، بما يشمل مياه الشرب والطبخ والاستحمام والنظافة وغيرها من الاحتياجات، في حين أن المعايير الدولية تتحدث عن أكثر من 100 لتر من المياه يومياً كنصيب للفرد.
ويعيش أهالي المدينة – وفقاً لحديث ضيفنا- أوضاعًا كارثية بسبب تدمير الآبار وعدم توفّر الوقود اللازم لتشغيل الآبار المتبقية، إضافة إلى تقطّع فترات ضخّ مياه ميكروت، مما نتج عنه حالة عطش شديدة تعيشها المدينة.
أما عن محطة التحلية شمال غرب مدينة غزة، فقد أعلنت البلدية توقفها عن العمل منذ بداية العدوان لما فيها من أضرار كبيرة.
وكانت هذه المحطة تمثل المدينة بأكثر من 10% من إجمالي واردات المياه، ويستدرك "النبيه": "أما الآن فمتوقفة تماماً دون أن نملك مقدرات لصيانتها، ولا باقي المرافق المختلفة".
مياه "ميكروت"..
وفيما يخص مياه "ميكروت"، يعتمد أهالي مدينة غزة على هذا الخط من المياه بشكل كبير خاصة خلال فترة الإبادة، لكن جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يمنع طواقم البلدية من الوصول إلى محابس التوزيع في المناطق الشرقية للمدينة، وفقاً لـ"النبيه".
ولم تستطع طواقم البلدية حتى هذه اللحظة تحديد ما إذا كان خط "ميكروت" لا زال يعمل أم لا، وسط مناشدات بضرورة السماح لطواقم البلدية بالوصول إلى تلك المناطق لفحص الأمر وإجراء أي عمليات صيانة لازمة.
وكان للمناطق الشرقية من مدينة غزة الحظ الكبير من الدمار، بينما تحاول البلدية القيام ببعض الإجراءات الإسعافية لتخفيف المعناة، ونقل المياه من خلال الشاحنات، ومساعدة أصحاب الآبار المحلية بتزويدهم بالوقود؛ إلا أن شُح الوقود حال دون معالجة هذه الأزمة.
ويحذر "النبيه" من أن انقطاع وشح المياه يؤدي إلى كارثة صحية وبيئية، ناهيك عن انتشار الأمراض المعوية والجلدية خاصةً الأطفال، في مراكز الإيواء وخيام النازحين.
ويُناشد المتحدث باسم بلدية غزة بضرورة إدخال الاحتياجات اللازمة، والسماح لطواقم البلدية الوصول إلى المرافق الحيوية كافة في المدينة، وإدخال كميات كافية من الوقود، إلى جانب معدات الصيانة، حتى تتمكن الطواقم من معالجة هذه الأزمة أو على الأقل التخفيف من معاناة المواطنين.
المصدر: وكالة سند للانباء