سيف الدين موعد
لم يعد ممكناً اليوم الحديث عن السلطة الفلسطينية بوصفها مجرّد "كيان سياسي مأزوم" أو "مشروع دولة مؤجّل"، بل باتت تجربتها تتكشّف، بكل ثقلها وارتباكها، جزءاً عضوياً من منظومة استعمارية هجينة، وظيفتها ضبط المجتمع الفلسطيني لا قيادته، تجهض الفعل الوطني باسم "السيادة"، وتحوّل الاحتلال من فعل مكلف إلى بنية مستدامة منخفضة التكاليف. تجلّى هذا الانكشاف بأبشع صوره في مشهد غزّة وهي تُباد، بينما تختبئ "القيادة الرسمية" خلف لغة باردة، وتكتفي بدور المتفرّج المُهذَّب أو بلوم الضحية، في لحظةٍ تتطلّب رصاصاً أو صراخاً أو موقفاً على الأقلّ. هنا، لم تبقَ السلطة في دائرة التخاذل وحسب، بل وُضعت (للمرة الأولى منذ ولادتها) تحت مجهر السؤال الأخلاقي والسياسي والتاريخي.
لنفهم هذا الانكشاف علينا أولاً أن نعود إلى البدايات، عندما وُلدت السلطة كائناً سياسياً من رحم اتفاق أوسلو (1993)، أُريد لها افتراضاً أن تكون نواة "الدولة المقبلة"، لكنّها في الجوهر كانت كياناً منقوص السيادة، مُصمّماً على قياس احتياجات الاحتلال لا على قاعدة نضالات الشعب. وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الخيبات والدم المراق في جنبات الوطن، لم تبقَ السلطة كما هي، بل تحوّلت تدريجياً من مشروع سياسي مؤقّت إلى جهاز وظيفي دائم، وانتقلت من تمثيل قضية وطن محتلّ وشعب مهجّر إلى مؤسّسة ضبط اجتماعي تصبّ في خدمة الاحتلال وتلبي احتياجاته الأمنية.
لقد مثّل اتفاق أوسلو (1993) لحظة تحوّل جوهرية في بنية الكفاح الفلسطيني. ليس لأنه جاء في ظلّ اختلال موازين القوى وحسب، بل لأنه أسّس منطقاً جديداً، فبدل أن تكون السلطة نتاج تحرير الأرض، كانت ثمرة التفاهم مع من يحتل هذه الأرض. وللمرّة الأولى، منذ 1948، أصبح الوجود الوطني مشروطاً بموافقة المحتل، والتقدّم في المشروع الوطني مرهوناً بإثبات "الجدارة الأمنية" و"الواقعية السياسية". وفي ذلك انقلبت المعادلة: بدل أن يكون الاحتلال في مأزق، صار الفلسطيني هو المطالب بإثبات حسن النيّة. لكن هذه البداية لم تكن خطأ تكتيكياً فقط، بل كانت تأسيساً لعلاقة استعمارية مغلّفة بالسيادة الشكلية. وقد تطوّر هذا التأسيس على مراحل، من مرحلة "الانتقال الآمن" في عهد الراحل ياسر عرفات، إلى مرحلة "الانضباط والتكنوقراط" في عهد محمود عبّاس. وفي هذه الأخيرة، تحوّلت السلطة بيروقراطيةً ثقيلةً، ذات بنية أمنية - اقتصادية متضخّمة، ترتكز على ثلاث ركائز رئيسة: التنسيق الأمني، والاعتماد على المانحين، واحتكار التمثيل. تحت هذه البنية، صار الأمن الوظيفة المركزية، أكثر من 25% من ميزانية السلطة تُصرف على الأجهزة الأمنية، في حين تتقلّص ميزانيات التعليم والصحّة والتنمية. ولم تكن هذه مصادفة، بل متطلباً بنيوياً في "هندسة الاستقرار"، إذ تتكفّل السلطة، وبما يشبه التعاقد الضمني، بتوفير الأمن لإسرائيل في الضفة الغربية، ومنع أيّ انفجار شعبي. بهذا المعنى، أصبحت السلطة الجهة التي تحمي الاحتلال من الشعب، لا الشعب من الاحتلال.
ولكي تنجح هذه الوظيفة، كان لا بدّ من إعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني نفسه. وهذا ما حصل فعلاً خلال العقدَين الماضيَين، فكّكت البنية الاجتماعية النضالية، وحُوّلت الكتلة الجماهيرية جمهوراً تابعاً اقتصادياً، فساد نمط "الاعتماد على الراتب" والقروض البنكية الميسّرة، وتضخّمت طبقة الموظّفين المرتبطة عضوياً ببقاء السلطة، واختفت النقابات المستقلة، وأُخضعت الجامعات، وتحوّل الاقتصاد إلى استهلاكي - ريعي يعتمد على مساعدات المانحين وتحويلات العمّال داخل الخطّ الأخضر. ومع غياب المشروع الوطني الجامع، وتآكل البنية الثقافية للمقاومة، صار من الممكن، وللمرّة الأولى، ضبط الضفة الغربية من دون قمع مباشر من الاحتلال.
والسلطة، في هذه المنظومة، لم تكن مجرّد إدارة محلّية، بل جهاز استيعاب رمزياً، يحتكر التمثيل ويتحكّم في الخطاب، ويعيد إنتاج مفرداته السياسية. أصبح "السلام" شعاراً لازماً، و"الشرعية الدولية" و"المفاوضات" سلاحاً لا بديل عنه، و"حلّ الدولتَين" غايةً منشودةً من دون أي أفق أو سقف زمني. وعلى الأرض كانت إسرائيل تُوسّع الاستيطان، وتُفكّك التواصل بين المدن والقرى، وتُحاصر القدس، وتُشوّه الخريطة وتعيد تركيبها كما تشاء. في هذا كلّه، لم تكن السلطة خصماً، بل كانت، في أحسن الأحوال، شاهداً عاجزاً، وفي أسوأها طرفاً ضامناً للاستقرار.
ثمّ جاء الانقسام عام 2007، فشكّل لحظة تأسيس ثانية لهذه الوظيفة. لم يعد الانقسام مجرّد خلاف سياسي بين حركتي فتح وحماس أو تنافس على السلطة أو على التمثيل والمشروعية، بل أصبح غطاءً لتثبيت الوضع القائم. تُركت غزّة تحت الحصار لتُستنزف وحدها، وعزلت المقاومة بداخلها، بينما تمركزت السلطة في الضفّة بوصفها "الشريك المقبول" لدى الغرب وإسرائيل. وتحوّلت فكرة "المصالحة" خطاباً استهلاكياً يُستخدم عند الحاجة ولا يُنفّذ.
تقول الوقائع إن لا أحدَ في إسرائيل (لا في الحكومة ولا في المعارضة) يعترف بأن الفلسطينيين يستحقّون دولةً أو أي إطار سيادي في أيّ بقعة "من البحر إلى النهر"
وخلال هذا كلّه، بقيت الطبقة السياسية في رام الله تتحرّك ضمن منطق "الإدارة لا القيادة". لم تُجرَ انتخابات منذ عام 2006، وعطّل المجلس التشريعي، وأصبحت منظّمة التحرير واجهةً من دون مضمون، تُدار بقرارات السلطة لا العكس، فهمشت لجانها، وأقصيت فصائلها المعارضة، وتحوّل القرار إلى مكتب الرئاسة، بينما تحوّلت الرئاسة نفسها إلى وظيفةٍ لتحقيق شبكة مصالح تتحكّم بها أوليغارشية عائلية أمنية تنظيمية، وتملأها أسماءٌ تتنازع الوراثة في مشهدٍ بلا رقابة ولا مساءلة.
وفي هذه اللحظة تحديداً، جاء زلزال غزّة. جاءت المذبحة لتسحب الغطاء عن كلّ شيء. لم يكن الصمت الرسمي مجرّد موقف، بل كان مرآة تظهر فيها السلطة كأنّها لم تعد قادرة حتى على تمثيل الغضب. وما هو أبعد، أن السلطة في الضفة واصلت ملاحقة المقاومين، وشاركت في حصار جنين، وفي ملاحقة خلايا المقاومة في نابلس وطولكرم وطوباس وغيرها، وفي تصفية مقاوميها، ونفّذت "واجبها الأمني" في ذروة الإبادة. وهنا لم يعد التنسيق الأمني تكتيكاً، بل صار إقراراً وظيفياً بأن السلطة لا تستطيع أن تكون شيئاً آخر.
ولكن الانكشاف الأكبر لا يتأتى فقط من داخل بنية السلطة، بل من الواقع الإسرائيلي نفسه، والذي تغيّر جذرياً منذ توقيع "أوسلو"، وبات يُعرّي وهم المشروع الذي أُسّس عليه. فبعد أكثر من 30 عاماً من هذا المسار، ماذا تبقّى من الأرض؟ الضفة اليوم محاطة بأكثر من 800 حاجز عسكري ومقسّمة بين كانتونات منعزلة ومحاطة بجدار فصل عنصري يسرق الجغرافيا ويخنق الديموغرافيا، فصار التمدّد الاستيطاني أمراً واقعاً، ولم تعد القضية هل تُضمّ الضفة؟ بل متى؟ وبأي صيغة؟ وهل يكون ذلك دفعةً واحدةً أم زحفاً صامتاً؟
وفي القدس، عزلت المدينة عن محيطها الفلسطيني، وهوّد واقعها الجغرافي والعمراني، واستبدلت البنية السكّانية بهندسة ديموغرافية مدروسة. وفي غزّة، وعلى وقع الإبادة، لم يعد التهجير خياراً ممكناً فقط، بل سياسة قيد التنفيذ، ففي وثائق الحكومة اليمينية الحالية، كما في تصريحات وزرائها، تُطرح مشاريع لطرد السكّان، وتعميق السيطرة، وإعادة تعريف حدود "الدولة" استناداً إلى التاريخ التوراتي، لا القانون الدولي. في ظلّ هذه الوقائع، تُصرّ قيادة السلطة الفلسطينية على الحديث عن حلّ الدولتَين، وكأنها تتفاوض مع كيان راغب، لا مع سلطة استعمارية لا ترى في الفلسطينيين سوى عبء ديموغرافي يجب التخلّص منه، بينما يسرق الطرف الآخر الأرض ويقتلع الشعب، ويُعيد هندسة الرواية والواقع على حدّ سواء. وتظلّ السلطة تدور في حلقة خطابية خشبية مغلقة عن السلام والديبلوماسية والشرعية الدولية، وتراهن على تبدّل في الإقليم أو تغيّر في موازين القوى دولياً. رغم أن الوقائع تقول بوضوح إن لا أحدَ في إسرائيل (لا في الحكومة ولا في المعارضة) يعترف بأن الفلسطينيين يستحقّون دولةً أو أي إطار سيادي في أيّ بقعة "من البحر إلى النهر"، ولا أميركا بوارد الضغط على إسرائيل، ولا اعتبار أو وزن لأيّ إنشاءات أدبية في فضاء الديبلوماسية الدولية خارج هذَين الفاعلَين. وهنا يبرز السؤال المصيري: ما المخرج؟
في ظلّ التهديد بتصفية القضية الفلسطينية، وخسارة ما تبقّى من الوطن، وأمام خرائط تُرسم من دون الفلسطينيين، لا بدّ من مشروع إنقاذ حقيقي، لا يبدأ من حلّ الدولتَين، بل من إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني نفسه. تبقى منظّمة التحرير، رغم ما لحق بها من تشويه وتهميش، المنجز الوطني المتاح والأكثر قابلية لتشكيل مخرج حقيقي من المأزق الوطني الراهن، فهي لا تزال (من حيث المبدأ) الإطار المعترف به عربياً ودولياً. لكن هذه القابلية مشروطة بإعادة البناء على أسس وطنية تضمن استرداد المنظمة دورها التحرّري المختطف، الذي كان مبرّراً لوجودها ابتداءً. وعملية إعادة البناء هذه، بوصفها ضرورةً وجوديةً لا مجرّد مسألة تنظيمية، يجب أن تبدأ أولاً من إعادة تعريف الشعب الفلسطيني بصفته ما زال تحت الاحتلال، وفي طور التحرّر الوطني، لا في طور بناء الدولة. وليس هذا التعريف ترفاً لغوياً أو مسألةً نظريةً، بل هو أساس يعيد ترتيب الأولويات، ويضع المشروع الوطني في سكّته النضالية. وعندها تُصبح إعادة بناء المنظمة مهمّة تحررية، لا إعادة ترميم بنية بيروقراطية فقدت شرعيتها.
ولأن التمثيل لا يكون حقيقياً إلا إذا انبثق من واقع النضال، لا تستطيع منظمّة التحرير، بمكوّناتها الحالية، أن تعبّر عن الكلّ الفلسطيني ما دامت القوى التي تخوض المعركة وتدفع ثمنها (وفي مقدّمتها حركتَا حماس والجهاد الإسلامي) خارج أطرها، وما دام مجلسها الوطني معطّلاً وفاقداً الشرعية. فلا شرعية تحت الاحتلال بلا مقاومة، ولا تمثيل بلا مشاركة فعلية، فإن لم تُفتح المنظمة لكلّ مكونات الشعب، وتمثّل نسيجه في الداخل والشتات، ستبقى إطاراً منتهي الصلاحية وفاقداً المشروعية السياسية. وتقتضي استعادة وظيفة المنظمة التاريخية أيضاً، العودة إلى جوهر ميثاقها لا مجرّد شكله، وفي مقدّمة ذلك إعادة الاعتبار للكفاح المسلّح خياراً مشروعاً لشعب تحت الاحتلال، واستعادة الرؤية الكاملة لفلسطين من البحر إلى النهر وطناً لا يتجزّأ، ورفض الاعتراف بشرعية كيان استيطاني قام على النكبة والاقتلاع. كما أن إعادة التأسيس لا تكتمل من دون تثبيت حقّ العودة بوصفه حقّاً فردياً وجماعياً غير قابل للتصرف، والتأكيد على أن اللاجئين في الشتات والمخيّمات والفلسطينيين في أراضي الـ48، هم مكوّنات أصيلة من الشعب الفلسطيني، لا ملحقات خارجية أو كيانات قابلة للفصل أو التأجيل.
وفي قلب هذه العملية، لا بد من إحياء التمثيل الديمقراطي الحقيقي، عبر مجلس وطني جديد يُنتخَب من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ويضم ممثّلين عن الفصائل، والنقابات، والهيئات الاجتماعية والثقافية والأكاديمية والشخصيات المستقلّة، على قاعدة الشراكة والتمثيل النضالي، لا على قاعدة الاحتكار أو الوراثة التنظيمية. ولا تنفصل هذه المهام عن ضرورة فصل المنظّمة عن السلطة الفلسطينية، التي تحوّلت مرجعيةً فوق المنظّمة بدل أن تكون خاضعة لها. لا يمكن الحديث عن استقلال القرار الوطني في ظلّ تغوّل سلطة محاصَرة ومقيدة بالاتفاقات الأمنية والتمويل المشروط. ولذلك، تبدأ إعادة البناء أيضاً من فصل هيكلي ووظيفي بين السلطة والمنظّمة، وضمان استقلالية القرار الوطني عن أيّ هيمنة فصائلية أو سلطوية.
هذا المشروع لا يقوم على العدمية السياسية، بل على واقعية يفرضها مشهد الإبادة في غزّة، والضم الزاحف في الضفة، والتشظّي السياسي في الداخل والشتات، فما تواجهه القضية الفلسطينية اليوم ليس مجرّد أزمة سياسية أو عثرة في مسار تفاوضي، بل تهديد وجودي يُنذر بزوال المشروع الوطني برمّته، وانمحاء فلسطين من خريطة العالم، وإذا لم يُستدرك هذا الانهيار بمنظور تحرّري شامل، يعيد تعريف الهُويَّة والهدف، ويُعيد بناء مؤسّسات التمثيل على أساس المقاومة والمشاركة، فإن فلسطين، أرضاً وقضيةً وهُويّةً، مهدّدة بالاندثار، إذ نجازف بتقويض نضالات شعب قاتل قرناً ليبقى.