راغدة عسيران
بعد العدوان الصهيو-أميركي على الجمهورية الإسلامية في إيران، توضّحت ثلاثة مشاهد على الساحة العالمية:
المشهد الأول: مشهد الانتصار والمقاومة
لأول مرة منذ إقامة الكيان الاستيطاني في فلسطين المحتلة قبل 77 عاما، سقطت الصواريخ الباليستية المدمّرة على أحياء المستوطنات الكبرى في الوسط والشمال والجنوب، ودمّرت المباني السكنية، والقواعد الجوية والموانئ، وعطّلت الدفاعات الجوية وشلّت الحركة في كافة أنحاء المستوطنة، وهرب المستوطنون الى المخابئ والملاجئ غير المحصنة من هذا النوع من السلاح. انتصرت الجمهورية الإسلامية في إيران ضد العدوان الصهيو-أميركي-الغربي لأنها أحبطت مخططاته: تغيير النظام، وقف البرنامج النووي وصناعة الصواريخ ودعم المقاومة في المنطقة، وخاصة في فلسطين. ردّت ايران على العدوان بقوة وأعلنت أنها لم ولن تستسلم.
من اليمن، ومنذ إعادة الحصار القاتل ومعاودة العدوان على غزة، تضرب الصواريخ القواعد الجوية والمطارات وتشلّ حركة الطيران لفترة طويلة، وتمنع السفن "الإسرائيلية" والمتجهة الى الكيان الاستيطاني من المرور في المياه العربية. وما زال شعبها وقيادتها وجيشها على استعداد لمواصلة دعم فلسطين. وتواصل القيادة بث خطابها الوطني والقومي والإنساني لاستنهاض الأمة وحثها على تحمّل مسؤولياتها.
في فلسطين وخاصة في قطاع غزة، صعّدت المقاومة الفلسطينية هجماتها ضد جيش العدو المنهار نفسيا وقتلت الجنود والضباط بالعشرات في الفترة الأخيرة، وأثبتت في عملياتها النوعية أنها ما زالت تتحكم بالميدان وتتحرك بكل شجاعة ضد الأهداف الصهيونية المكشوفة لديها. وأثبت تصويرها للعمليات التي نفذتها شجاعة مقاتليها من جهة وجبن الجنود والضباط الصهاينة من جهة أخرى. في الضفة الغربية، ورغم مشاركة "السلطة الفلسطينية" في إحباط العمليات ضد العدو، تتمكن المقاومة بين الحين والآخر من تنفيذ عمليات تفجيرية بآليات العدو وجنوده.
في لبنان، رغم الضغوط العسكرية (الصهيو-أميركية) والاقتصادية والسياسية (الغربية والعربية والأممية والداخلية)، لم تستسلم لا المقاومة ولا بيئتها العريضة، ولا نيّة لديها لتسليم سلاحها، على الأقل طالما يواصل كيان العدو احتلاله للأراضي. ولم تتمكن الجهات المعادية من افتعال حرب أهلية لتسهيل المهمة الصهيو-أميركية.
الى جانب هذه القوى المتمسّكة بهدف تحرير فلسطين، صعدت القوى الجماهيرية في بلدان العالم، في الدول المشاركة في الإبادة الجماعية في غزة وفي الدول الأخرى، لتفضح كيان العدو وداعميه ولتدعم قوى المقاومة في المنطقة.
المشهد الثاني: مشهد الإبادة والتوحش والغطرسة
حرب استئصال الشعب الفلسطيني مستمرة، عبر الإبادة الجماعية في قطاع غزة والهجمات الهمجية على الضفة الغربية. في قطاع غزة، الصهاينة يقتلون ويدمرّون، يحاصرون ويجوّعون. ولضمان عدم وصول المساعدات الدولية الى الفلسطينيين، ابتدع العدو، بمساعدة الولايات المتحدة، ما يسمى ب"مراكز توزيع المساعدات" وهي بالفعل مصيدة لأهل غزة، حيث ارتقى الى الآن 580 "مجوّع" وصل الى هذه المراكز، الى جانب تفعيل عصابات إجرامية محليّة لسرقة المساعدات حين تدخل الى القطاع. ويقتل جيش العدو كل من يحاول تأمين المساعدات الغذائية للسكان ويمنع سرقتها.
الى جانب هذه المشاهد المأساوية، القصف مستمر وخيام النازحين تحترق، والكوادر الطبية مستهدفة بالقتل (1580 شهيدا)، كما يستهدف جيش العدو الصحافيين (220 شهيدا) وطواقم الدفاع المدني (115 شهيدا). خرجت المستشفيات عن الخدمة، ولم تعد هناك جامعات ولا مدارس، وأكثر من 700,000 طالب محروم من التعليم في حين استشهد منهم أكثر من 13 ألف طالب منذ بداية الحرب الهمجية.
لا تدلّ هذه الأرقام الجافة عن المأساة الحقيقية التي تعيشها العائلات على قيد الحياة. لقد دخل الى القاموس مصطلحات جديدة تعبّر عن ذروة التوحش: المجوّعين، مذابح الطحين، مصائد الموت، مجازر لقمة العيش، اشتعال خيام النازحين، انتشال العالقين (تحت الركام).. وهناك العشرات من المصطلحات المماثلة لا تصلح إلا للحرب الوحشية على غزة.
في الضفة الغربية، تصاعد العدوان الصهيوني على مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية، مع تشديد الحصار على المخيمات التي تم تشريد أهلها، ودمرّ جيش العدو أكثر من 400 منزل في مخيمات طولكرم، و600 في مخيم جنين، ونزح أكثر من 22 ألف مواطن من جنين ومخيمها، واستولى المستوطنون الهمج على منابع المياه في العوجا وعين سامية. يشنون غارات بالأسلحة على البلدات ويقتلون المواطنين (كفر مالك مؤخرا). يتوسّع الاستيطان على حساب أرض فلسطين بإقامة مستوطنات جديدة أو بتوسيع القديمة. ذلك دون الحديث عن الاعتقالات اليومية التي تعد بالعشرات أو أحيانا بالمئات، حيث يتم التحقيق ميدانيا، مع الضرب والتعذيب والإهانات. قد يستنكر رعاة البقر الأميركيين والفايكنغ الأوروبيين أي تشبيه يجمعهم بهؤلاء الهمجيين الذين استولوا بالقوة والخديعة على فلسطين.
في السجون الصهيونية، تفوّقت الوحشية والهمجية على كل ما يعرف عن سجون العالم، حتى الأميركية والألمانية النازية وما بعد النازية والبريطانية. ويتعامل الصهاينة مع الفلسطينيين بأقصى درجات الوحشية، وكأنهم يدركون أن هذه إيامهم الأخيرة قد تنتهي سريعا، فهم يريدون إلحاق أكبر قدر من الأذى قبل نهايتهم.
إضافة الى الصهاينة، صعّد الرئيس الأميركي المجرم عدوانه على شعوب المنطقة، بدعمه المطلق لكيان العدو، في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، مطالبا استسلام الجميع أمام القوة المفرطة والانبطاح أمام الصهاينة. بالسلاح والمال والتهديد والابتزاز والكذب، وبنشر الأساطيل الأميركية وتمكين القواعد العسكرية، يحاول ترمب السيطرة على المنطقة والقضاء على فكرة مقاومة الظلم والصهيونية ورفض الاستسلام.
المشهد الثالث: الغرق في الأزمات
بين المشهدين، يطلّ مشهد الأزمات التي وقعت فيها الدول والمنظات الدولية بسبب عدم حسم الصراع بين محور الشر الصهيو-أميركي ومحور المقاومة، إضافة الى الأزمة العميقة التي يعيشها الكيان الصهيوني. تطلّ الأزمات في كل من الدول الغربية، في أوروبا أساسا ثم في الولايات المتحدة، وتطلّ بوادرها في الدول العربية، المطبّعة أو على قيد التطبيع أو الرافضة للتطبيع، بسبب ضغوط متناقضة على سياساتها، الضغوط الشعبية من جهة وأن لم تكن قوية ومؤثرة، والضغوط الأميركية والغربية من جهة أخرى، غير أن الاعتقالات في بعض هذه الدول بسبب الموقف من فلسطين والمقاومة، وقمع الفعاليات الشعبية أو التعبير عن الرأي قد يصعّد التوترات الحالية.
يعيش الغرب الاستعماري أزمة بسبب تخليّه عن المبادئ التي نادى بها منذ عقود والتي أراد تطويع دول العالم عليها، حيث بدأ منذ معركة "طوفان الأقصى" محاربة الرأي الحرّ وكل التوجهات الشعبية الداعمة لفلسطين ومقاومتها. من استدعاء كتاب ومناضلين الى المحاكم وتجميد الحسابات المصرفية والاعتقال بناءا على شكاوى صهيونية، لم تعد فرنسا تكتفي بإرسال الأسلحة الى كيان العدو لقتل الفلسطينيين، فباتت تمارس علنا قمع الحريات الديمقراطية التي تغنّت بها طويلا، من أجل إنقاذ الكيان الصهيوني من غضب شعوب العالم. وذلك ينطبق على عدة حكومات غربية تنتمي الى محور الشر الصهيو-أميركي رغم معارضة شعوبها.
لم يعد لدى المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة وغيرها، أي مصداقية عند شعوب العالم. لم تتجرأ المحاكم الدولية محاكمة المجرمين الصهاينة بسبب الدعم الأميركي لهم وتهديد القضاة بحياتهم. تجاوز الغرب الاستعماري كل القوانين والمؤسسات التي شكلها لضبط الصراعات الدولية، من أجل حماية الكيان ومجرميه. انتهى عصر المؤسسات الدولية كما هي اليوم، خاصة بعد فضح دور اللجنة الدولية للطاقة الذرية، التي سلّمت تقاريرها وصور المنشآت الإيرانية الى العدو الصهيوني.
تؤكد هذه المشاهد أن محور المقاومة ما زال يقاوم مشاريع تصفية ومحو فلسطين، إلا أن العدو الصهيو-أميركي المجروح والمأزوم يستشرس أكثر كلما توسّعت أزماته. وقد يساهم في حسم الصراع لمصلحة فلسطين والأمة نهضة وتحرك شعوبها لمحاصرة مقرات ومصالح العدو الأميركي والمطالبة بإزالة القواعد العسكرية عن أراضيها ورحيل أساطيلها المهددة لأمنها.
