وكالة القدس للأنباء - متابعة
لم يكن يحمل سلاحًا، بل كاميرا قديمة بيد، وباليد الأخرى زجاجة ماء وزّعها على نازح عابر. كان اسمه محمود خميس شراب، فنانًا غزّيًا ومبادرًا مجتمعيًا بسيطًا، يضع قبعةً فوق رأسه وابتسامةً على وجهه، يجوب الخيام لا ليُرعب الأطفال، بل ليضحكهم. عُرف في المواصي كفنان الشعب، يخلط بين الكوميديا والكرامة، بين فن البساطة والوجع الفلسطيني المتوارث. وفي ظهيرة حزينة من حزيران/يونيو، لم يبقَ منه شيء. قُصفت الخيمة التي احتضنته، فغادرت الضحكة، وغادر معها صاحبها.
قبل يوم واحد فقط من استشهاده، صوّره صديق له وهو يُغنّي للأطفال، وينصب خيمة جديدة لنازحين فقدوا مأواهم في قصفٍ ليلي.
قال لصديقه علاء النجار حينها: «الفن دائمًا أضعف من الحرب، لكن يمكن نقدر نجعل الناس تضحك خمس دقائق». ثم ضحك، ونظر للسماء، كما لو كان يودّعها.
لم يكن محمود الوحيد، ولا الأخير. في غزة، منذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية على القطاع في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، صار الفنانون والمبدعون أهدافًا غير مرئية في قائمة طويلة من أسماء الشهداء. في كل حيّ، وفي كل مركز ثقافي، قُصفت حنجرة، واحترقت ريشة، وغُيِّب صوت، ولم يبقَ للذاكرة سوى صدى بعيد لأعمال لم تكتمل.
وفقًا لمصادر محلية، استُشهد محمود في 21 حزيران / يونيو 2025، مع حماته وشقيق زوجته محمد سعيد شبير في قصف على خيمتهم في منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، ليلحق بأبيه الشهيد محمود خميس.
خرجت جنازته من مجمع ناصر الطبي في خان يونس، وسط سيول من البكاء والنحيب، وهناك ظهر شقيقه وهو ينتحب بحرقة ويحتضن جثمانه قائلًا: «هاتان اليدان الموثقتان، كثيرا عملتا الخير… إيديك التي كانت تسند الجوعى والنازحين، الله يرحمك يا محمود".
عُرف محمود بين الغزيين بحبه لفعل الخير وإغاثة النازحين. كان آخر منشور كتبه الفنان على منصة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» قبل استشهاده بساعات: «الحمد لله خلال الأسبوع المنصرم وخلال فصل النت، تم توزيع 15 عربية سقيا ماء، بارك الله فيكم وفي ميزان حسناتكم، وإن شاء الله نقدر نخدمكم خلال الأسبوع ونوفر أكبر عدد من العربيات للمناشدات".
في فلسطين، لا يُسمح حتى للفرح المؤقت أن يستمر طويلًا. هنا، تُغتال الابتسامة حين تصبح مشروع مقاومة، ويُقصف الفنان حين يُصرّ على صنع الجمال وفعل الخير في خراب معلَن.
فنانون على لائحة الموت
في زمن الإبادة وموت الإنسانية، لم تعد قوائم القتل تقتصر على المقاومين ولا حتى الصحافيين. صار الفنانون، الشعراء، الرسّامون، المخرجون، وحتى صانعو المحتوى، أهدافًا علنية. ليس لأنهم يُمسكون بندقية، بل لأنهم يُجيدون حمل الحكاية، ويجيدون تحويل الرماد إلى صورة.
رفعت العرعير، أستاذ الأدب والروائي المعروف، قُصف منزله في السادس من كانون الأول / ديسمبر 2023، فقُتل مع أفراد عائلته. لم يكن ناشطًا ميدانيًا، بل كاتبًا علّم طلابه كيف تُقاوِم بالكلمة. كتب قبل أيام من استشهاده قصيدة بعنوان «إذا كان لا بد أن أموت»، قال فيها: «فليبعث ذلك على الأمل، فليكن ذلك حكاية".
بعد استشهاده، قال صديقه الشاعر مصعب أبو توهة خلال حديثه لـ"القدس العربي": «اغتيال رفعت أمر مأسوي ومؤلم وفاضح… خسارة فادحة".
درغام قريقع، فنان متعدد التخصصات، يُعرف بمسرحياته الساخرة الموجهة للأطفال، استشهد في آذار/ مارس 2025 مع زوجته وأطفاله في قصف طاول منزله وسط غزة. قال وائل الديب أحد زملائه خلال حديثه لـ"القدس العربي": «رغم المعاناة، أصر ضرغام على دعم مجتمعه من خلال الفنون. حول الألم إلى أمل".
هبة زقوت، فنانة تشكيلية شابة من مواليد مدينة غزة، تُعرف ببورتريهاتها التي تُخلّد وجوه أطفال الشهداء. استشهدت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مع ابنها. كتبت قبل أيام من استشهادها: «اللهم نستودعك قلوباً مفجوعة بالفراق… اللهم اجبر كسر قلوبنا». وكانت آخر لوحاتها تُجسّد امرأةً دامعة العينين تحتضن حمامة سلام، كتبت إلى جانبها: "نبحث عن الأمان في حياتنا كما نبحث عن ضوء في عتمة… ربما نعثر عليه في الحب، لكننا سنظل نُفتّش عنه في كل شيء."
كان علي نسمان واحدًا من أبرز وجوه السخرية الهادفة في غزة، فنانًا كوميديًا وناشطًا ميدانيًا، عُرف بين الناس بضحكته التي تخترق الحصار، وكاميرته التي لا تنطفئ حتى في أقسى اللحظات. وُلد عام 1985، ودرس إدارة الأعمال، لكنه اختار أن يقف على خشبة الفن المقاوم لا بين المكاتب. شارك في أعمال درامية مؤثرة كـ»الروح» و»بوابة السماء»، لكنه في أيام الحرب اختار جبهة أخرى: كان يُسجّل يومياته المصورة تحت القصف، يواسي بها الناس، ويقول في كل تسجيل: «سننتصر، أو نستشهد بكرامة".
قبل ساعات من استشهاده، كتب على صفحته: «إذا انقطعنا عنكم، فسنلتقي في القدس أو الجنة». وكأنه كان يُعدّ وداعًا أخيرًا.
استشهد علي في 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بعد غارة استهدفته وسط غزة، بعدما تحوّل إلى صوت غير قابل للإسكات، ومرايا تفضح المجرم بالسخرية والصدق. نعتته المنصات بعبارات مثل «فنان المقاومة» و»جبهة إعلامية وحده»، ونعاه الناس كما يُنعى رفيق النضال لا ممثلًا فقط. كتب في آخر ظهوره: «أهل غزة معنوياتهم عالية رغم التعب… إما النصر أو الشهادة»، وكأنه كان يختصر فلسفة مدينة كاملة. برحيله، لم تُغتال ابتسامة فقط، بل أُسكت لسان كان يقاتل بالحقيقة في وجه أعتى الأكاذيب.
الهوية تُحاصر… والريشة تُقصف
لم تكن هذه الجرائم مجرد «أضرار جانبية»، بل تبدو كسياسة ممنهجة تستهدف العقل الجمعي الفلسطيني. فاستهداف الفنانين ليس فقط ضربًا للأفراد، بل محوًا للرموز. إن من يُغني للحياة، يصبح خطرًا على آلة تصنع الموت.
المراكز الثقافية كانت من أوائل المنشآت التي دُمّرت. 32 مركزًا بين نادٍ ومسرح ومكتبة، إضافة إلى تدمير عشرات المتاحف الصغيرة والأرشيفات. من بينها «مركز رشاد الشوا الثقافي»، و"مركز سعيد المسحال للفنون".
أرشيفات كاملة من الأفلام الوثائقية، والشرائط الصوتية، ولوحات لفنانين كبار مثل فتحي غبن، فُقدت دون نسخة رقمية. بعض الفنّانين كانوا يحتفظون بأعمالهم تحت الأسرة، في خزائن بلا أقفال، وداخل هواتفهم المحمولة. بعد استشهادهم، اندثرت أعمال كاملة دون أن يراها أحد.
الاستهداف لا يتوقف عند الفنّان نفسه، بل يطال ذاكرته. حتى القبور، حين تكون جماعية أو بلا أسماء، تُطمس فيها الملامح والصوت. لقد أصبحت مقابر الفنانين أكثر من مجرد تراب: هي نهاية لحكايات لم تكتمل.
وجوه لا تُنسى
على جدار مدرسة مهدّمة في غزة، كُتبت أسماء: محمود، رفعت، درغام، هيبا، فاطمة، رشاد. لم تكن لائحة رسمية، بل عفوية كتبها أطفال الحيّ، كأنهم يحاولون منع النسيان من اجتياح الذاكرة.
كل فنان في غزة حمل قصة. فتحي غبن، الذي رحل في فبراير 2024 نتيجة فشل كل سبل العلاج، كان من كبار رسامي القطاع. توفي قهرًا في منزل بلا كهرباء، بلا دواء، وسط عجز النظام الصحي عن إنقاذه. كان يقول لزواره: «أنا ما بموت من مرضي.. بموت من صمت العالم".
دينا زعرب، فنانة تصويرية كانت تلتقط صور الأطفال تحت القصف، استشهدت وهي تحمل كاميرتها. التقطت آخر صورة لها قبل استشهادها بدقائق، نُشرت بعد وفاتها بعنوان "العين التي رأت كل شيء".
وجوههم لم تُمحَ. لكنها تُنسى تدريجيًا في ضجيج الأحداث وسرعة الموت. في تقارير المنظمات، يُذكرون كرقم. لكنهم في الحقيقة كانوا قناديل أضاءت دروبًا قصيرة، ثم انطفأت قبل أن تُكمل الحكاية.
من يحمي صُنّاع الجمال؟
في ظل غياب أي حماية دولية للفنانين في غزة، تبدو حرب الإبادة الثقافية جارية على قدمٍ وساق. لا توجد اتفاقيات تُلزم قوات الاحتلال بعدم استهداف المبدعين، ولا آليات لحمايتهم. حتى بيانات الشجب، حين تصدر، تأتي متأخرة، وباردة.
منظمة «اليونسكو» اكتفت في آذار/ مارس 2024 بإصدار بيان يُدين «الاعتداءات على المؤسسات الثقافية»، دون أن تُسمي جهة القصف، ودون أن تفتح تحقيقًا حقيقيًا. منظمات حقوق الفنانين الدولية بالكاد أصدرت بيانًا واحدًا عن مقتل رفعت العرعير، ثم صمتت.
الازدواجية الصارخة في التعامل مع جرائم ضد الفنّانين واضحة. في أوكرانيا، تُعقد مؤتمرات للدفاع عن المبدعين، وتُخصص صناديق لحماية الأعمال الفنية. في غزة،
يُقتل المبدع، ويُهدم بيته، وتُنسى أعماله، دون حتى تدوين لاسمه.
فمن يحمي صُنّاع الجمال حين يُصبح الجمال جريمة؟ من يُبقي على الصوت حين تُكسر كل المايكروفونات؟ من يحفظ حكايات الفنّانين، إن لم نكن نحن؟