قائمة الموقع

الصواريخ الإيرانية تثأر لغزة

2025-06-19T14:51:00+03:00
أسماء بزيع*

تغيّرت وجهة الرصاص  في سماء الشرق الأوسط: لم تعوّضه الغارات "الإسرائيلية" على غزة، بل أضفت إيران مشهدًا مختلفًا؛ صواريخها التي ضربت العمق "الإسرائيلي"، جاءت بدافع تضامني معلن، وكأنها تقول: "نحن هنا، ننصر القضيّة بوسعنا، ونذكّر العالم بأن العدالة لا تُحسب بخسائر غزة فقط".

فلم تكن الصواريخ، مجرّد ردٍّ عابر أو استعراضٍ عسكري لحظة الغضب، بل كانت بيانًا ناريًا كتبه البارود بمداد المظلومية المزمنة، نيابة عن غزة التي احترقت تحت نيران القصف "الإسرائيلي" لأشهر طوال، فيما العالم يكتفي بتعابير القلق، وصور أطفال مبتوري الأطراف. بل كانت محمّلة برسائل متشابكة: بعضها يحمل ثأرًا لغزة، وبعضها الآخر يوقظ ذاكرة القدس التي عانت تهويدًا منهجيًا، وبعضها صفعة لهيمنة "إسرائيلية" توسّعت على جثث المدنيين، دون رادع... وبعضها الآخر رسالة لكل المشاركين بالعدوان على غزة، من عرب ومسلمين وغربيين...

لقد جاءت الضربات مدروسة، وواسعة لا رمزية. أصابت مدنًا "إسرائيلية" مركزية، كـ"بات يام"، و"ريشون لتسيون"، و"تل أبيب"، وحيفا وبئر السبع، وعطّلت الحياة في قلب الكيان الذي لطالما تغنّى بتفوّقه الأمني. لم يكن الهدف العسكري وحده في مرمى الصواريخ، بل الرمزية: أن تُقصف حيفا، ومعهد وايزمان العلمي، ووزارة الحرب، ومجمعات صناعية، ومجمع "غاف يام" التكنولوجي المجاور لمستشفى سوروكا العسكري، وغيرها من المواقع الستراتيجية.. كل هذا يعني أن المعادلة تغيّرت، وأن عصر "ضرب غزة دون تكلفة" قد ولّى.

إيران، التي توصف بأنها محور الممانعة ومصدر "التوتر الإقليمي"، لبّت نداء الدم، لا بدافع ديني فقط، بل كحساب مفتوح منذ عقود. هي لم تُخفِ نيتها، ولم تدّعِ الحياد. بل اختارت أن تدخل المعركة بصيغة "الوعد الصادق"، معلنة أن الدم في ساحات الوحدة ليس رخيصًا، وأن كل شهيدٍ دُفن تحت أنقاض رفح وجنوب لبنان وصنعاء.. له ظلّ في طهران.

لكن خلف الدخان، يُولد سؤالٌ صاخب: هل نحن أمام تحوّل جذري في قواعد الاشتباك؟ أم أنها لحظة غضب ستُطوى مع التهدئة القادمة؟ والإجابة ليست سهلة. فـ"إسرائيل"، "الدولة" النووية والعضو غير الرسمي في "نادي الكبار"، لم تستطع أن تمنع الضربات أو تتجنب آثارها، رغم ترسانة القبة الحديدية وأنظمة "ديفيد سلينغ" و"أرو 3". ولأول مرة، يُسجَّل اختراق إستراتيجي جوي، أربك قيادة "الجيش"، وأرغم الملايين على استيطان الملاجئ، والأنفاق ومحظات المترو.

وفي غزة، حيث الركام صار هوية، لم تكن الأخبار كغيرها. المشهد مختلف. الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، والنساء اللاتي دفنّ أبناءهن تحت الإسمنت، كانوا شهودًا على مشهد جديد: أن هناك في العالم من لا يزال يردّ الصاع بصاروخ، والاحتلال بالمواجهة، وأن غزة، ولو أنها تحارب وحدها، ليست وحدها تمامًا.

أمّا في "تل أبيب"، فقد اهتزت مقاعد الكنيست، وظهر ارتباك واضح في خطاب نتنياهو الذي بدا مهزوزًا أمام صدمة الاستهداف المباشر. فالرجل الذي اعتاد التهديد بتدمير العواصم، صار يتحدث عن "ضبط النفس" و"التنسيق مع الحلفاء"، وكأن اليد التي أوجعت العمق "الإسرائيلي" نبّهت الجميع إلى أن ما كان ممكنًا بالأمس، لم يعد مضمونًا اليوم.

والمفارقة أن الضربة الإيرانية لم تُحدث فقط تصدعًا في جدار الردع "الإسرائيلي"، بل كشفت هشاشة الحلف الدولي الذي صمت أمام مجازر غزة، وتحرك فقط حين اشتعلت مدنا "إسرائيلية". فهل المطلوب أن يُقصف الأبيض كي تُقدَّر قيمة الدم المراق في حي الشجاعية؟ وهل بات لزامًا أن تُقصف حيفا، ليُعاد تعريف من هو الضحية ومن هو الجلاد؟

في النهاية، تبقى الصواريخ الإيرانية فعلًا سياسيًا مركّبًا، أكثر من كونه عسكريًا. هو خطاب في وجه النظام الدولي، وسؤال عن الأخلاق الغائبة، ورسالة إلى حلفاء الاحتلال: أن الحريق قد يمتد. وهي ليست بداية حرب، وربما لا تكون نهايتها. لكنها بالتأكيد لحظة فاصلة، قالت فيها إيران لغزة: لسنا غرباء عن دمك، ولسنا شهود زور على وجعك.

وهذه الصواريخ  التي "ثأرت لغزة" لن تُكتب نهايتها عند غيوم الدخان أو أنين الجرحى، بل ستكون لها أصداء في موازنات القوى، وردود الأفعال الدولية، ولنهايةٍ قد تبدو مفصليّة في تاريخ الصراع الفلسطيني–"الإسرائيلي". فمن بين الأنقاض، ستنهض الحقيقة دائمًا، ومن بين هدير الصواريخ، ستولد خرائط جديدة للتحالفات والخيارات.

أمّا غزة، التي نزفت حتى ظنها العالم قد ماتت، ما زالت حيّة في قلب السياسة، وفي فوهات الرد، وفي صواريخ تحمل وجعها حتى لو أُطلقت من بلادٍ تبعد عنها آلاف الكيلومترات.

*وكالة القدس للأنباء

اخبار ذات صلة