راغدة عسيران
بعد إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون أن فرنسا ستعترف بدولة فلسطين كخطوة احتجاجية على مواصلة حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة بمنع وصول المساعدات الى المحاصرين، توالت التصريحات حول هذا الاعتراف، بين المؤيد (دول أوروبية) والرافض قطعا (كيان العدو و"الشيطان الأكبر" الأميركي) والمشجّع (دول عربية وسياسيون وإعلاميون عرب وفلسطينيون) واللامبالي (جمهور من المناضلين المدركين لسقف "الدعم" الغربي للقضية والحقوق الفلسطينية).
فهل الاعتراف بدولة فلسطين مكسب للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني؟ وهل هو خطوة باتجاه الاعتراف بكامل هذه الحقوق وبإقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيادية على أرض فلسطين ؟
يجب أولا التوقف عند سياق الإعلان:
جاء الإعلان كورقة ضغط على الحكومة الصهيونية لكي تسمح بدخول قوافل المساعدات الى قطاع غزة المجوّع. أعاد الرئيس الفرنسي إعلانه بعد كلمة محمود عباس، رئيس سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، عندما شنّ هذا الأخير هجوما لفظيا قاسيا على حركة المقاومة الفلسطينية، مطالبا إياها بتسليم سلاحها وتسليم الأسرى الصهاينة لديها دون أي مقابل، محمّلا إياها مسؤولية حرب الإبادة المتواصلة التي ينفذها كيان العدو الصهيوني.
يدلّ سياق الإعلان الفرنسي أنه ظرفي، وليس مبدئي، وكان ماكرون قد تراجع قليلا بعد الإعلان الأول، نافيا أنه سيتم مناقشة قضية الإعتراف بجلسات أوروبية لاحقة. لكن كلمة محمود عباس أعطته دفعة جديدة ليضع الإعلان ضمن سياقه الطبيعي بالنسبة له وللأوروبيين : دولة فلسطين هي الدولة المنبثقة عن اتفاقيات أوسلو المشؤومة ضمن ما يسمى "حل الدولتين".
ثانيا : ماذا تعني دولة فلسطينية ضمن "حل الدولتين" ؟
تقع هذه الدولة المنشودة الى جانب الكيان الصهيوني في حدود 1967 المعدلة، ومن غير معروف ما هو مصير القدس، حيث لم تطرح في هذه الاتفاقيات ولا بعدها، هل ستكون عاصمة الدولة في القدس بمسجدها الأقصى ومقدساتها التاريخية أم في إحدى ضواحيها، مثل بيت حنينا مثلا أو ما بقي منها، وما هو مصير اللاجئين الفلسطينيين، إضافة الى الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني. لقد قُسم الشعب الفلسطيني الى ثلاثة، الجزء الأول في "دولة فلسطين" (الضفة الغربية وقطاع غزة) والجزء الثاني في الأرضي المحتلة عام 1948 حيث لا تمثلهم السلطة الفلسطينية ولا منظمة التحرير، فأصبحوا "مواطنين" في الكيان الصهيوني، والجزء الثالث أي اللاجئون الفلسطينيون الذين أصبح مصيرهم مجهولا، حيث لا يمكن عودتهم الى أراضي "الدولة" فقط ، إلا بعد موافقة كيان العدو وبأعداد قليلة.
إضافة الى أن "حل الدولتين" تعني إنهاء المقاومة وملاحقة أو اغتيال المقاومين الذين يسعون الى تحرير الأرض فعليا، والوطنيين الذي يطالبون بسيادة فلسطينية حقيقية لشعبهم، وسيطرة القوى الأمنية التابعة ل"دولة فلسطين"، بالتنسيق مع كيان العدو والقوى الأجنبية، على هذا الكيان المسمى بدولة. يسيطر المموّلون الأجانب على كل مرافق حياة الفلسطينيين، وخاصة على الأمن والاقتصاد (الارتباط بالكيان المحتل) والتعليم (تغيير المناهج لتكون مناسبة للرواية الصهيونية)، والإدارة والقضاء والتوظيف والسجون حيث يقبع المئات من المقاومين الفلسطينيين. دولة فلسطين المنشودة في أروقة العواصم الغربية والعربية ليست إلا إدارة ذاتية يتحكم بها مموّلون أجانب لمنع تحرير فلسطين وعودة اللاجئين، ويتسلط عليها فلسطينيون مرتبطون بهذه العواصم.
ثالثا : تساءل الكاتب والباحث حسن لافي إن كانت التصريحات الأوروبية الأخيرة المنتقدة لكيان العدو، ومنها تندرج التصريحات حول الاعتراف ب"دولة فلسطين"، تدلّ على انعطافة أوروبية جادة أم توزيع أدوار بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية أم محاولة إنقاذ "إسرائيل" من ذاتها ؟ يخلص الى أن هذه المواقف تجمع بين الوظائف الثلاثة، لأن الدول الأوروبية "لا تنطلق من موقع معادٍ لإسرائيل، بل من داخل مشروعها الغربي الأصلي.. ومن هذا المنطلق، فإن التحرك الأوروبي لا يستهدف إضعاف "إسرائيل" كدولة، بل يسعى إلى لجم الانحراف الذي تقوده حكومة نتنياهو وتحالفه من المستوطنين نحو هوية "دينية-قومية" مغلقة تخرج إسرائيل من المنظومة الليبرالية الغربية"، و"تبدو أوروبا وكأنها تخوض معركة على "إسرائيل" أكثر مما تخوض معركة من أجل الفلسطينيين".
رابعا : ماذا بعد الاعتراف ؟
هل سينسحب المستوطنون وجيشهم من الأراضي الفلسطينية المحتلة ؟ هل ستضع الدول التي ستعترف بالدولة شروطا إضافية، أكثر مما قدمته اتفاقيات أوسلو وما قدّمه محمود عباس، من تنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، للانسحاب الصهيوني من بعض المناطق ومن أجل إعادة إعمار كل ما دمّره العدو في قطاع غزة والضفة الغربية ؟ مقابل هذا الاعتراف، ما المطلوب من الشعب الفلسطيني ؟ أن يتخلى عن كامل أرضه وعن كامل حقوقه الثابتة ؟
لقد كتب قبل عقد من الزمن الكاتب الهندي (من كندا) غلين كاورتهارد حول مسألة اعتراف المستوطِن بالشعب الضحية، قائلا ان هذا الاعتراف هو وسيلة أخرى للدولة الاستعمارية للسيطرة على الشعوب المستعمرَة، بدلا من أن يكون بداية عهد جديد أكثر عدالة من السابق، ويضيف أن الاعتراف يُطرح عادة بعد صعود مقاومة الشعوب لمنعها من استمرار مقاومتها، كنوع من التفاوض حول حقوقها المشروعة.
خامسا : تطالب بعض القوى المناهضة لحرب الإبادة والمؤيدة للشعب الفلسطيني حكوماتها بالاعتراف بدولة فلسطين، وتضغط بهذا الاتجاه، ما قد يفسّر على أن هذا الاعتراف يصبّ في مصلحة حقوق الشعب الفلسطيني. ترى هذه القوى أن الاعتراف ب"دولة فلسطين" ليس بالضرورة كما تصورته اتفاقيات أوسلو أو ضمن "حل الدولتين" الذي ينفي حقوق أكثرية الشعب الفلسطيني في أرضه وسيادته، بل إدانة للكيان الصهيوني من جهة وخطوة على يطرق الاعتراف بكامل الحقوق الفلسطينية، ديبلوماسيا وسياسيا. ما يعني أن المطالبة بالاعتراف من قبل هذه القوى السياسية نقلت المعركة الى داخل الدول الأوروبية، بين مؤيدي المشروع الصهيوني ومؤيدي حقوق الشعب الفلسطيني، ما يشكّل مسارا إيجابيا من أجل إعلاء صوت فلسطين في العالم.
سادسا : تعتبر بعض القوى المقاومة إنه يمكن تحرير الأراضي المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية عليها وبالتالي يتم الاعتراف بها، إلا ان مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون تقديم تنازلات عن الحقوق الفلسطينية، يتطلب ثلاثة أمور :
عربيا، تغيير الأنظمة العربية التي تشارك بقتل الفلسطينيين والأنظمة المتواطئة مع قتلهم والحامية للكيان الصهيوني، والتي قد تعترف بتلك الدولة المحرّرة، وستكون الحامية لها كما كان الاتحاد السوفياتي والصين حاميتان لفيتنام وكمبوديا ولاوس قبل استكمال تحريرهم على أيدي القوى الثورية في الشمال.
دوليا : استقلالية هيئة الأمم المتحدة وإعادة بنيتها وبنية كل مؤسساتها لتصبح فعلا ممثلة للدول في العالم، وإضعاف الدول الغربية الحامية والمموّلة للكيان الصهيوني. قد تتمكن القوى الثورية المقاومة من تحرير أجزاء من فلسطين، كما فعلت قوى ثورية في العالم، فيتم تشكيل إدارة ثورية للأراضي المحرّرة، الى حين التحرير الكامل، بدلا من إقامة دولة تطالب بالاعتراف بها. لقد أثبتت التجارب التاريخية في العالم أن التوقّف عن حرب التحرير والاكتفاء بجزء من الأراضي يعني تكريس التقسيم، كما هو حال إيرلندا التي ما زالت مقسمة بين الشمال المحتل من قبل بريطانيا حيث الصراع متواصل بين السكان الأصليين والمحتلين، وبين الجنوب المحرّر الذي وافق على التفاوض وتكرّس بالتالي تقسيم البلد.