كثيرون تحدّثوا عن "فلسفة" الإبادة في غزّة، ووثّقوا ما يجري من مجازر لم يسبق أن مرّت على التّاريخ، وكتبوا عن الجرح المفتوح على الخارطة، ومع ذلك، فإنّ كلّ لغات العالم، لا تستطيع -وإن اجتمعت- أن تصف دمعةَ طفلٍ غزّيّ يبكي بحثًا عن قطعة خبز، فكيف ستستطيع الأجيال القادمة أن تتخيّل حجم المأساة هذه بعد انتهائها؟
في غزّة، لا تُقاس الأيام بالساعات، بل بعدد القذائف، بعدد الشهداء، بعدد الأمهات اللاتي يُقتَلنَ بكلّ وحشيّةٍ أمام أطفالهن، وبالبيوت التي تتحوّل إلى رماد في لحظة واحدة، في ذلك الشريط الصغير المحاصر، حيثُ صارت غزّة بحدّ ذاتها لغةً كاملة.
الأجيال القادمةُ بعد انتهاء الإبادة في وقتٍ ما من هذا الزّمان، ستكون مناهج التاريخ عندها بعنوان غزّة، وكتب الجغرافيا بعنوان غزّة، وكتب التربية والعلوم والرياضيات، جميعهم، باسم غزّة، لكي يحفظ التاريخ بأقلامنا ما سرقتهُ "إسرائيل".
أساتذة الجغرافيا، ربّما لن يستطيعوا أن يشرحوا لطلابهم كيف أنّ بقعةً جغرافيّةً صغيرةً احتوت كلّ هذه الدماء وكلّ هذا الموت، كما وأساتذة اللغة العربية، لن يستطيعوا أن يفسّروا بكلّ ضمائرهم، المستترة منها والظاهرة، كيف صارت غزّة لوحدها لغةً تفوق كلّ لغاتنا، وكيف صارت تصف بمشاهد المذابح نفسها فتخطّ تاريخنا الجديد.
أساتذة العلوم والفلسفة، سيشرحون لطلابهم كيف وصف المحتلّ مواطني غزّة بـ"الحيوانات البشريّة" ليبرّر قتلهم، وكيف سمع ذلك كلّ العالم ولم يحرّك ساكنًا، وكيف قتل وذبح الآلاف منهم، فكانوا هم الشرفاء، وكانت الصّفة التي أدلى بها المحتلّ، دليلًا عليه.
لن يستطيع العالم بأسره، أن يشرح تفاصيل الإبادة في القطاع، لأنّ هذه الإبادة، تفوق مصطلحاتنا جميعًا، وغزّة تصف نفسها بنفسها، بمشاهد المذابح، بالصّرخات العالية التي لا يسمعها أحد -سوى القلّة- بالموت، بالجوع، بالأطفال، بالخدّج، بالدّمع والدّم القاني، وبكلّ الأضدادِ إذِ اجتمعت.
غزّة ستطالبنا جميعًا باسم هذه الدّماء، وستسألنا معًا، حين تصير الإبادة فعلًا ماضيًا: "ماذا فعلتم لأجلي، لأجل أطفالي ونسائي؟"، وحين لا يسعنا الجواب، وتضيق اللغة، وتمطر السحابة علينا دماءً خلّفتها الحرب، سنصمت، لتجيب عنّا غزّة، لأنّها اللغةُ حين تضيق اللغات، ولتقول: "بقوّة الله، ثمّ بصمود شعبي ومقاومتي وكلّ من وضع يده على كتفنا من دول الإسناد، وبدمائي، أنا غزّة، انتصرتُ رغمَ الإبادة".