قائمة الموقع

التجويع كسلاح في حروب الإبادة: كيف تفوّق كيان العدو على الهمجية الاستعمارية الغربية

2025-05-23T13:54:00+03:00
راغدة عسيران

منذ أكثر من ثلاثة أشهر، يواصل كيان العدو جريمة التجويع ضد الصامدين والصابرين من أهل قطاع غزة، بالتزامن مع القصف والتدمير المنهحي لكل مقومات الحياة. وثّقت الإحصائيات الحديثة استشهاد 300 مواطنا بسبب "نقص المواد الغذائية" منذ بداية الحصار المتجدّد، منهم 26 مريضا كما سجّلت 300 حالة إجهاض بين النساء الحوامل للأسباب ذاتها.  تعدّ جريمة التجويع سلاحا استخدمه الكيان الاستيطاني منذ إقامته على أرض فلسطين في العام 1948، كما استخدمته الدول الاستعمارية الغربية في حروبها على الشعوب المضطهدة والمقاومة، ما يفسّر تأخر "صحوة" الضمير الإنساني الرسمي أمام حرب الإبادة في قطاع غزة.

في أكثر من دراسة ومقال، أفاد الباحث محمد قعدان أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني استخدم جريمة تجويع الفلسطينيين في الأراضي التي احتلها عام 1948 بطرق مختلفة. ولأن جريمة التجويع وسيلة من وسائل الاستعمار الاستيطاني تهدف الى إزاحة أو إبادة الشعب الأصلاني والتطهير العرقي في البلد المحتل، تسبّب الكيان الصهيوني منذ إقامته بأزمة معيشية داخل المجتمع الفلسطيني من خلال: سرقة أراضيه المزروعة ثم إبعاده عنها ومحاصرة الفلسطينيين ضمن مناطق مقفلة ومنعهم من التنقل والعمل إلا بتصاريح يصدرها الحاكم العسكري، ومنع الغذاء من دخول هذه المناطق قبل تأمين الغذاء للمستوطنين القادمين من وراء البحار.

يلخص الباحث هذه الأساليب المتبعة ويورد أمثلة لسياسة التجويع صدرت في صحف وأرشيفات رسمية خلال تلك الفترة: منع أهالي قرية برعم الذين تم تهجيرهم من خيرات حقولهم "وتركهم يعيشون في كفَاف وشحّ مؤن تصلهم من وكالة الغوث "الأونروا"." لكن بعد ان أوقف الكيان المحتل عمل "الأونروا" في الداخل في العام 1952 "صار أهالي القرية وجميع المهجّرين متروكين لمصير مجهول من دون معونة".

ويروي قصة لاجئ من الناصرة يعيل عائلة مكونة من "9 أنفار التي أصبحت على حافة الموت من الجوع" بسبب إلغاء تصريحه الدائم من قبل الحاكم العسكري، الذي كان يسمح له بالتنقل والعمل.

بعد الجفاف الذي اجتاح المنطقة في بداية الستينيات، تلاعبت سلطات العدو في تعريفها للجفاف ومناطقه في النقب المحتل لمنع دفع التعويضات للفلاحين الفلسطينيين، في حين كانت التعويضات سخية للمستوطنين اليهود. ينقل إحدى الرسائل التي بعثها مشايخ النقب يقولون فيها: "نريد تنبيه السلطات إلى أن تنفيذ هذا القرار، أي حرماننا من مصدر رزقنا الوحيد، يعني تثبيت سياسة موت البدو من خلال تجويعهم". ويستخلص: "هذا يعني أن العرب كانوا على وعيٍ تامٍ بأنهم يتعرضون لعملية "تمويت" ممنهجة عبر القضاء على زراعتهم."

واليوم، خلال حرب الإبادة على أهل قطاع غزة، يواصل سرقة الأرض في الضفة الغربية، ويجرف الأراضي في كل مكان لمنع الفلسطينيين من الاستفادة من إنتاجهم الزراعي. يسرق هذا الإنتاج ويقتل ويسرق المواشي. فهو يريد من ناحية استعباد الفلسطيني باستهلاكه وعمله، ومن ناحية أخرى، التضييق عليه لتهجيره من وطنه. فالحملة التدميرية في قرى ومخيمات شمال الضفة الغربية ومحاصرتها، والتي انتقلت مؤخرا الى وسطها وجنوبها (قرى بيت لحم والخليل ورام االله والأغوار) تهدف الى تهجير الفلسطينيين عن طريق تجويعهم والتضييق عليهم، ما يعني أن حرب التجويع، ولو بكثافة ووتيرة أقل من قطاع غزة، تستهدف الشعب الفلسطيني بأكمله، لأن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، كسائر الدول الاستعمارية الاستيطانية في العالم، يهدف أولا وأخيرا الى تهجير الشعوب الأصلانية وفرض استسلامها.

استعمل الغرب الإستعماري سلاح التجويع، ضمن عملية التهجير، لتهلكة الشعوب المقاومة. في أميركا مثلا، حارب المستوطنون الأوروبيون، خلال غزوهم القارة، الشعوب الهندية الرافضة لعملية تهجيرها، بقتل قطعان الجواميس وحرق المزارع. امتدت حرب التجويع الى البلدان التي احتلّها الأوروبيون في القارة الإفريقية.

ركّز الباحثون المعاصرون، من أجل فهم أسباب المجاعة في بعض الدول الإفريقية والآسيوية، على السياسة الإستعمارية التي دمّرت الطبيعة ونهبت مواردها وغيّرت معالمها، ما جعل السلطات الجديدة غير قادرة على مواجهة الأحوال الجويّة. لكن حرب التجويع التي شنّتها الدول الإستعمارية ضد الشعوب الأصلانية لها أسباب أخرى لأنها تسعى لفرض استسلامها عبر تدمير المجتمع ومقوّمات حياته بشكل ممنهج، أي تدمير المزارع وجرف الأراضي وسرقة المواشي وحصار مطبق لمنع دخول "المساعدات الغذائية والطبية"، كما هو الحال اليوم في قطاع غزة.

استخدمت فرنسا حرب التجويع في تونس خلال حرب الاستقلال التي خاضتها حركة التحرير التونسية، لفرض استسلامها. يشير الباحث فاتح بوفوروك (المجلة التاريخية الجزائرية 2023) حصول أزمة غذائية حادة في العام 1947، لعدة أسباب أهمها الجفاف. "فضلا عن سياسة التوسّع والاستيطان الفرنسية الجائرة، التي صادرت بموجبها السلطات الفرنسية أراضي وأموال التونسيين ومنحها للمستوطنين الأوروبيين، منعت وصول المساعدات القادمة من الدول الشقيقة إليها، كما هو الحال مع المساعدات المصرية التي مُنِعت من الدخول إلى الموانئ التونسية"، في حين "واصلت تصدير المنتوجات الزراعية من تونس وباقي دول المغرب العربي إلى فرنسا".

تذرّع الاحتلال الفرنسي باضطراب الوضع في تونس وعدم الاستقرار لمنع دخول المساعدات المصرية، ورفض دخول بعثة الهلال الأحمر السوري. فقالت السفارة الفرنسية في مصر "أنّ تحفظّها يكمن في ضرورة أن تشرف السلطات الفرنسية هناك بنفسها على توزيع هذه المساعدات حتى تتمّ الأمور بطريقة سَلِسَة ودون أية تجاوزات".

تجويع بهدف استسلام جبهة التحرير، رفض دخول المساعدات الغذائية، ونيّة الاحتلال على الإشراف على توزيعها كي لا تقع بأيدي المقاومين... هكذا تصرّف المستعمرون البارحة، وهكذا يتصرّف المتوحشون الصهاينة اليوم، مع استخدام القوة الحربية المميتة المصنّعة في الدول الاستعمارية الغربية.

تزاحمت في الأيام الماضية التصريحات الرسمية الأوروبية التي تدين جريمة التجويع، دون إدانة صريحة لمواصلة حرب الإبادة المستمرة منذ 15 شهرا. يتوّعد اليوم الرسميون الأوروبيون بوقف الاتفاقيات المستمرة مع كيان العدو، رغم مرور نحو 18 شهرا واستشهاد اكثر من 53 ألف فلسطيني في غزة، ورغم الحرب المتواصلة في الضفة الغربية والقدس منذ سنوات. هل هي صحوة ضمير ويقظة أخلاقية ؟ أم خشية من أن تصل الى هذه الدول تداعيات حرب الإبادة وتهزّ أركان المجتمع الدولي، دوله وتنظيماته المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ؟ هل يتصوّرون ويحلمون بأنهم سيفلتون من العقاب ؟

صرّحت قبل إيام المفوضة الأممية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، التي تعرف تماما مدى نفاق الغرب الاستعماري: "الكثير مما يقوله السياسيون ما زال مجرد ادعاء: يفرضون العقوبات بيد ويسلّحون ويتاجرون بالسلاح باليد الأخرى." هم فقط يخافون من الانفجار – الطوفان الذي سيطيح بالنظام العالمي الذي بنوه على جماجم الشعوب.

اخبار ذات صلة