تعد مدينة القدس إحدى أهم المدن التاريخية في العالم العربي والإسلامي. شهدت، منذ نشأتها من قبل اليابوسيين، حقبات تاريخية عدة تخللتها احتلالات ومعارك ومجازر، لكنها واصلت رسالتها الحضارية التي تتجلى اليوم في مقدساتها وبنائها وأسوارها وأسواقها ومقابرها التاريخية الدالّة على عمقها التاريخي والإنساني، الى جانب وجود أهلها، المقدسيين، الذين يتصدون للبربرية الصهيونية.
فاصبحت مدينة القدس، بسبب مكانتها الدينية والتاريخية والحضارية، عاصمة فلسطين وإحدى أهم عواصم العالم العربي. وقبل الزحف الاستيطاني الصهيوني الى القدس، في بداية القرن التاسع عشر، الذي ترافق مع الاحتلال البريطاني، كانت القدس عاصمة تستقطب الفلسطينيين من كافة مناطق فلسطين، فيها المدارس والمستشفيات والأسواق والمكاتب الصحفية والإدارية المختلفة، الى جانب مساجدها وكنائسها ومقابرها التاريخية، وكانت تقام فيها المؤتمرات العربية الروحية والسياسية والتجارية والثقافية.
لكن اليوم، ومنذ قدوم البرابرة الجدد، المستوطنين الصهاينة الذين زحفوا اليها وحولها، اختفت ملامح العاصمة العربية بعد التشويه الشامل الذي أحدثوه فيها. فلم تعد القدس عاصمة فلسطين إلا في الأدبيات والتمنيات. فاخترقت المستوطنات الصهيونية أكثرية أحياءها التاريخية، وطوّقت بلداتها المجاورة المدمّرة، التي أزيلت عن الخارطة واستبدلها المستوطنون بالغابات والحدائق أو الطرق السريعة والمستوطنات. فمن يتذكر إلا أهلها والمهتمين، قرى ساريس ولفتا وعين كارم والمالحة، أو أحياءها الغربية كالقطمون والبقعة ؟
يسلط الباحثون المقدسيون الضوء على أكبر مشروع استيطاني صهيوني يهدد مدينة القدس اليوم، وهو مشروع "القدس الكبرى" الذي تبناه كيان العدو في العام 2024، والذي يراد منه فصل مدينة القدس كليا عن الضفة الغربية المحتلة، عن طريق توسيع مساحة بلدية الاحتلال بضم 14 مستوطنة ضمن حدودها، وتقطيع أوصال البلدات المقدسية المجاورة أو إزالتها، بزرع مستوطنات إضافية داخلها وحولها، وتنفيذ مشروع "نسيج الحياة" التابع له الذي يربط العاصمة المحتلة بمستوطنات الضفة الغربية بطرقات سريعة ممنوعة على الفلسطينيين. يراد منه تحويل البلدات المقدسية الى جزر مغلقة، على شكل "البانتوستانات".
يتم تنفيذ المشروع الصهيوني الجديد من خلال توسيع مساحة البلدية الصهيونية من ناحية، الذي يعني سرقة أراضي الضفة الغربية وهدم المنازل في المناطق المستهدفة (قرية النعمان المهدّدة بالزوال كليا بعد هدم 21 منزلا)، وتنفيذ من ناحية أخرى مشاريع "إنمائية" للمستوطنات الحالية على حساب البلدات المقدسية، كما هو الآن في بلدة بيت صفافا التي تبعد 6 كلم عن المسجد الأقصى، والتي تحاصرها 7 مستوطنات، حيث تم إغلاق شارع الجبل الذي يربط أحياءها لتنفيذ مشروع صرف صحي لإحدى المستوطنات. وذلك الى جانب جريمة هدم المنازل والمصانع والبركسات، حيث تم إخطار مؤخرا بلدة عناتا بهدم 21 منزلا، وعمارة في واد قدوم، ومباني في جبع والعيساوية.
من ناحية أخرى، يتم تقليص عدد المقدسيين من خلال إقفال المؤسسات الوطنية أو الأجنبية والأممية التي تقدّم بعض الخدمات للفلسطينيين، حيث تم إقفال مدارس وكالة الأونروا الستة الموجودة في القدس (مخيم شعفاط، وادي الجوز، سلوان، صور باهر)، بعد حملة تحريضية منذ عقود على وجود تلك الوكالة التابعة للأمم المتحدة، لأنها تحافظ رسميا على صفة اللاجئ الفلسطيني. إضافة الى أن حوالي 800 طالب وطالبة سيفقدون مدارسهم، بعد هذا الإغلاق، سيحرم أكثر من 110 آلف مقدسي لاجئ من خدماتها إن تم إغلاق معهد قلنديا التكنولوجي والعشرات من مراكزها الطبية.
لكن استهداف مدارس وكالة الأونروا يعني أيضا توسيع جريمة تهويد التعليم في العاصمة الفلسطينية المحتلة على حساب التعليم الوطني، كما تؤكده محاولات إغلاق مدارس أخرى، مدرسة بنات القدس في سلوان مثلا، ومدارس الفرقان القائمة منذ 30 عاما، التي تشمل 4 مدارس، ويعمل بها 120 موظفا ويدرس فيها 1300 طالبا وطالبة. وقبل إيام، طالبت منظمة صهيونية بهدم مدرسة فلسطينية تاريخية في بلدة بتير، بحجّة أن طلابها قد يشكّلون "خطرًا أمنيًا" على خط القطار بين القدس ومستوطنة، كما هي عادة الصهاينة منذ زحفهم الى فلسطين، فهم ينتقلون من نقطة (بؤرة) للتوسّع بحجة "الخطر الأمني".
الى جانب المدارس، أغلق الصهاينة مكاتب صندوق ووقفية القدس، لأنها تقوم بتعزيز صمود المقدسيين، وكانوا قد استهدفوا الكثير من المؤسسات والمكاتب والجمعيات الوطنية منذ انتفاضة الأقصى (2000- 2005) التي انتقلت الى مدينة رام الله أو أُقفلت نهائيا.
بعد إقفال العديد من المؤسسات الوطنية ومنع الفلسطينيين من التوجه الى بعضها (مستشفيات، مدارس) إلا بتصاريح صهيونية، لم يبق إلا الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية، التي ما زالت تستقطب فلسطينيي الضفة الغربية، ولكن مع تضييقات تتصاعد موسم بعد موسم وعام بعد عام، لفرض التهويد على المقدسات. تتحول مدينة القدس الى ثكنة عسكرية خلال شهر رمضان، للتضييق على الفلسطينيين، وتستنفر القوى الصهيونية للتضييق على المسيحيين خلال أعيادهم. وبالمقابل، تجتاح "مجموعة من الزعران يسمون أنفسهم "متدينون قوميون" باحات المسجد الأقصى (وأحياء البلدة القديمة) "بهدف الاستفزاز"(نظمي الجعبة) ويتباهون بتأدية "صلوات" تلمودية في داخل المسجد وعلى أبوابه.
يحارب العدو المقدسيين أيضا، لتنفيذ مشروعه، بالتضييق عليهم اقتصاديا، من خلال الضرائب التي تكثّفت بعد أكتوبر 2023 وخاصة بعد عملية "طوفان الأحرار" التي حرّرت العشرات من المقدسيين، الذين يتم ملاحقتهم يوميا والتضييق عليهم بشتى الوسائل، ومنها فرض المخالفات على مساكنهم أو سياراتهم. تفيد إحصائيات جديدة أن 80% من الشركات والمصالح الاقتصادية للمقدسيين توقفت عن العمل جزئيا او كليا، وارتفع عدد المقدسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الى أكثر من 75%، كما ارتفعت نسبة البطالة بينهم.
بعد هذا الوصف الإجمالي لما يهدّد اليوم العاصمة الفلسطينية المحتلة، حيث لم يبق إلا شعبها للدفاع عن هويتها الحضارية ومكانتها العالمية، يتساءل الكثير عن كيفية دعم صموده خلال أشرس هجمة على الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948، خاصة بعد تخلي معظم الدول العربية والإسلامية، المطبّعة مع العدو وغير المطبّعة، عن العاصمة العربية المحتلة، وقبولها ضمنيا عملية تهويدها، بسبب ارتباطها بمصالح الدول الغربية الاستعمارية.
إضافة الى المتابعة الإعلامية للشؤون المقدسية، من المهم إلقاء الضوء على صمود المقدسيين اليوم وعلى مقاومتهم في أحيائها وبلداتها ضد الهدم والتشريد والاعتقال والتنكيل وعلى الحفاظ على مقدساتها بالرباط والتصدي لقطعان المستوطنين، أي رفض الاحتلال الصهيوني والتهويد بشكل عام، كما من المهم التذكير بتاريخ وأهمية المقدسات وتلك البلدات والأحياء التي حذفت أو شوهت معالمها بفعل البرابراة الجدد.
فمسألة مدينة القدس لا يمكن حصرها بالمقدسات أو بالجزء الشرقي منها، كما وضّحت وثيقة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: "كل الحلول التي تختزل حق الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين في القدس، في الجزء الشرقي منها، أو في المدينة القديمة أو ما يعرف بالقدس الشريف، أو تحصر علاقتهم بالقدس، في شكل من أشكال الولاية الدينية، دون التحرر من الاحتلال، وبسط السيادة الكاملة لشعبنا وأمتنا عليها، باطلة ومرفوضة".
بهذه الطريقة، يمكن التأكيد على أن القدس، رغم احتلالها اليوم من قبل البرابرة الجدد، ما زالت من أهم المدن التاريخية والدينية والحضارية في العالم العربي والإسلامي، وأن نهوضها وتحرّرها مرهون أيضا بوعي شعوب الأمة بتاريخها وحضارتها الإنسانية وبالعمل الى جانب المقاومة الفلسطينية.