في قلب الأرض المباركة، وعلى ضفاف التاريخ المنقوش على صخور الزيتون وعبق التراب المقدّس، تقف الضفة الغربية المحتلة شاهدة على إحدى أطول مآسي العصر الحديث وأكثرها تعقيدًا. حيث تمضي آلة الاحتلال "الإسرائيلي" في تنفيذ مشاريعها الاستيطانية، مدفوعة بوهم السيطرة وحلم "السيادة" المزعومة. فتُهدَم البيوت، وتُقتلع الأشجار، وتُصادر الأراضي، ويُحاصر الحلم الفلسطيني في بقعة من أرضٍ باتت تنزف تحت وطأة التهويد والاقتلاع.
لقد شكّلت الضفة المحتلة على مدى عقود ساحة مركزية لصراع وجود، لا حدود. فالاحتلال لم يكتفِ بالتحكم بالمكان، بل سعى إلى محو الذاكرة وإعادة صياغة الواقع بما يخدم مشروعه الاستعماري، متكئًا على دعم دولي أعمى، وصمت عربيّ رسمي مُطبق. فمن القدس إلى الخليل، ومن الأغوار حتى جنين، تتوالى المشاريع الاستيطانية بوتيرة متسارعة، في سباقٍ محمومٍ لفرض وقائع ميدانية قبل أي تسوية محتملة.
ومنذ عقود، والمحتل يسعى إلى طمس الهوية الفلسطينية، لا فقط عبر التهجير والقتل والحصار، بل بما هو أعمق وأدهى: العبث بخارطة الوطن وتزييف جغرافيا الوجود. خرائط تُرسم بمداد الاستيطان، وشوارع تشقّ لتخترق أوصال القرى، وأسماء تُستبدل بأخرى عبرية في محاولة لفرض واقع مصطنع، يقلب المعادلة ويعيد كتابة الرواية.
لكن رغم هذا المخطط الممنهج، تظلّ الحقيقة أقوى من الزيف، والتاريخ أصدق من الدعاية. فأسماء القرى التي أُحيطت بالمستوطنات، ما زالت تُلفظ بالعربية، وتُروى بلهجة الجدات. وأبناء الضفة، الذين كبروا على أصوات الرصاص وقنابل الغاز، باتوا اليوم يكتبون صفحات جديدة من الصمود، رافضين الانكسار أمام محتلّ يسعى إلى كسر إرادتهم ووأد أحلامهم. كما أن ما لا يدركه المحتل، أو يتجاهله عن عمد، أنّ الجغرافيا ليست فقط تضاريس وخرائط، بل هي ذاكرة شعب وحقبة تاريخ وإيمان لا تزعزعه الجرافات ولا يطفئه الرماد.
إنّ سياسات التوسّع الاستيطاني، وما يصاحبها من حملات مصادرة الأراضي وهدم المنازل وتهجير السكان، ليست مجرّد اعتداءات عابرة على أرضٍ محتلة، بل هي مشروع ممنهج يروم القضاء على كل ما هو فلسطيني في الضفة. وفي حين تلتزم القوى الكبرى الصمت المُريب، ويغرق العالم في حسابات المصالح، يبقى الفلسطيني هناك، في كفر قدوم والشيخ جراح ومسافر يطا، واقفًا على ثرى أرضه كمنارة لا تنطفئ، يعيد تذكير العالم أن الاحتلال لا يُشرّع بالبندقية، وأنّ المستوطن لا يُصبح صاحب دار بمجرّد أن يقيم جدارًا.
الضفة الغربية اليوم ليست فقط عنوانًا للمواجهة، بل مرآة تكشف عورات المنظومة الدولية التي تغضّ الطرف عن الجرائم، وتكيل بمكيالين في مقاربتها لقضايا الإنسان والعدالة. ففي الوقت الذي تُنتهك فيه المواثيق الدولية وتُقمع فيه أصوات الحق، يُمنح المحتل دعمًا سياسيًا وعسكريًا، ويُسمح له بإعادة تشكيل الجغرافيا على هواه، في مشهد يعكس خللًا أخلاقيًا وإنسانيًا صارخًا.
لكن رغم السواد الكثيف، فإنّ الضفة لم تُسقط راية الصمود. من بين الركام، يولد أطفال يتهجّؤون اسم وطنهم كما يُتهجّأ الدعاء، ويكبرون على وقع الحجارة لا على لحن الهزيمة. في حارات نابلس، وعلى جبال الخليل، وبين أزقّة جنين، لا تزال الذاكرة حيّة، تقاوم النسيان كما تقاوم الجنود. وتبقى الأرض، برغم محاولات تغييرها، تنبض بفلسطينيتها، تُعانق أصحابها كلما عادوا إليها، وتبكي حين يُقتلعون منها، لكنها لا تخون.
قد ينجح الاحتلال في بناء أسوار من الإسمنت، وقد يتمكّن من تطويق القرى بالحواجز، لكنه لن يستطيع حصار الحقيقة، ولن يتمكن من تزييف التاريخ إلى الأبد. لأنّ معادلة الحق والباطل لا تُقاس بعدد الآليات العسكرية، بل بثبات أصحاب الأرض، بإصرارهم على البقاء، وبقناعتهم الراسخة أن ما بُني على الباطل، لا يمكن أن يصمد.
إنّ معركة الجغرافيا التي يخوضها الاحتلال في الضفة، ليست فقط معركة حدود، بل هي معركة هوية ووجود، معركة تحاول أن تمحو اسم فلسطين من الحاضر لتعيد صياغة مستقبل بائس لا مكان فيه لأصحاب الحق. لكنّ أصحاب الحق، وإن أُضعفوا، لا يُهزمون. وسيرى من خطط لتقسيم الأرض وسرقتها، أن الجغرافيا الممسوخة لا تُثمر أمنًا، وأن الأرض التي تُستلب بالقوة، تظلّ تنبض بالغضب إلى أن تعود.
في النهاية، تبقى الضفة المحتلة ساحة اختبار حقيقي للعدالة الدولية، ومحرارًا لضمير الإنسانية. وستظلّ الجغرافيا الفلسطينية، رغم كل محاولات العبث بها، ترفض أن تتحوّل إلى خارطة صمّاء، لأنّها تنطق باسم أصحابها، وتردّد في صمتها: إن الحق لا يُمحى، وإن الباطل لا يخلّد. *(وكالة القدس للأنباء)