راغدة عسيران
بات واضحا، بعد أكثر من عام ونصف، أن العدو الصهيوني وشركائه في حرب الإبادة، يستهدفون الإعلاميين الفلسطينيين لمنعهم من نقل الصورة الحقيقية للمذابح المتنقلة التي يرتكبونها في قطاع غزة وفضح التوحّش الصهيوني على كل بقعة من فلسطين المحتلة. لقد قتل جيش المستوطنين الصهاينة أكثر من 210 إعلاميا في قطاع غزة منذ بداية حرب الإبادة، واستهدف بعضهم مع عائلاتهم في بيوتهم ومراكز الإيواء التي لجأوا اليها كسائر المواطنين، والبعض الآخر خلال عملهم الإعلامي حين كانوا يوثّقون المجازر أو في خيمهم في وقت الراحة. وفي الضفة الغربية والقدس المحتلة، يهدّدهم العدو ويعتقلهم ويمنعهم من تغطية عدوانه الإجرامي اليومي، وفي فلسطين المحتلة عام 1948، يفتعل المبررات لاعتقالهم كما حصل مع الصحافي سعيد حسنين من شفا عمرو المتهم ب"الاتصال مع عميل أجنبي" (فلسطيني من قطاع غزة) وإظهار التضامن مع منظمة إرهابية" (المقاومة الفلسطينية) منذ أقل من شهر.
لا شك أن الإعلام الفلسطيني وخاصة الإعلاميين في غزة، المراسلين والمصوّرين والصحافيين لعبوا دورا حاسما في فضح الوحشية الصهيونية خلال حرب الإبادة وما زالوا، أمام الجمهور العربي والأجنبي بلغاته المتنوعة. كتب الشهيد حسام شبات في وصيته: "والله، لقد أديت واجبي.. خاطرت بكل شيء لأنقل الحقيقة". فاعتبر الفلسطينيون بشكل عام والمراسلون في غزة أنهم يقومون بواجبهم الوطني والأخلاقي، كما ورد في بيان "تجمع الإعلامي الفلسطيني" (2/4/25) الذي أدان اغتيال الصحافيين وأشاد في الوقت ذاته "بجهود الزملاء كافة الذين يصلون الليل بالنهار من أجل نقل الحقيقة وتأدية رسالتهم الإنسانية والأخلاقية والوطنية".
لقد تجاوز المراسلون منع الصهاينة للإعلام الحر من دخول القطاع وبثّ الأخبار والصور وإجراء تحقيقات مع الأهالي. يمكن الجزم أنه بفضل الإعلاميين الفلسطينيين المضحيّن بحياتهم، أصبحت صورة جيش العدو وكيانه ومستوطنيه في الحضيض عالميا وعربيا، ولم يدافع عن هذا الكيان المجرم وممارساته إلا أقلية فاقدة الأخلاق والإنسانية، تتحكم بالعالم بسبب قوتها الحربية والمالية، وتسيطر على المؤسسات الإعلامية والسياسية فيه، والتي تحاول حجب الحقيقة من خلال القمع والتهديد من ناحية وشراء الولاء لها من ناحية أخرى لكل من فضّل قتل ضميره وإنسانيته مقابل الشهرة والمال والإفساد في العالم.
بعد استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة، بسبب انضمام الإدارة الأميركية، عسكريا وماليا وسياسيا اليها، اغتال جيش العدو أبرز أصوات المقاومة خلال معركة طوفان الأقصى المجيدة : الناطق باسم سرايا القدس أبو حمزة، الشهيد القائد ناجي أبو سيف، في 18 مارس/آذار 2025 والمراسلين محمد منصور (فضائية فلسطين اليوم) وحسام شبات (قناة الجزيرة مباشر) في يوم 24/3/2025 والصحافي محمد بردويل (إذاعة الأقصى) في يوم 1/4/ 2025 والذي اغتيل مع بناته الصغار.
باغتيال الشهيد ناجي أبو سيف (أبو حمزة)، أراد العدو إسكات أبرز أصوات المقاومة، حيث كان الناطق باسم سرايا القدس يطلّ بين الحين والآخر ليؤكد في بعض النقاط على مجريات المعركة عسكريا وسياسيا، مع التركيز على إنجازات المقاومة ووحدة الساحات الفلسطينية (من القطاع الى الضفة الغربية واللجوء الفلسطيني) وساحات الأمة العسكرية والشعبية. كانت تصريحاته تتحدى الصهاينة وقيادتهم وأعوانهم من جهة وتمنح الثقة بالمقاومة من جهة أخرى.
لم ينقل المراسلون في قطاع غزة، صور وحشية كيان العدو وإبادة كل ذرة حياة في قطاع غزة فحسب، في مستشفياتها وأسواقها ومساجدها وأحيائها، بل توجهوا نحو المواطنين في معظم أماكن الإيواء والأحياء المدمرة، يسألونهم عن حياتهم ومشاعرهم، ونقلوا صور صمودهم وحبّهم للحياة الكريمة، ونقلوا كيف يعمل الحرفي بأدوات بدائية دون التوقف عن العطاء، وكيف تكّيفت المزارعة مع القصف والقتل، وعادت مع أسرتها لزراعة ما يمكن زراعته لتوفير حاجات الناس في زمن الإبادة والمجاعة.
نقل المراسلون والمصوّرون الشجعان كيف يدرس الطالب والتلميذ دون كهرباء وهم جياع، وكيف نشأت بعض مراكز تحفيظ القرآن الكريم ومراكز تعليمية من لا شيء ليجتمع الأطفال ويتعلمون حب الوطن وضرورة الدفاع عنه، وكيف يعمل الدفاع المدني لانتشال الأحياء والشهداء، بمساعدة المواطنين، وأظهروا شجاعة الطواقم الطبية التي كانت وما زالت مستهدفة لأنها تحافظ على الحياة في قطاع غزة. نقل المراسلون المضحّون بحياتهم المشاهد الرائعة أثناء تسليم الأسرى الصهاينة التي أغضبت المستكبرين والمتوحشين في العالم، وأقوال السيدات والأطفال والشيوخ التي تفتخر بمقاومتها وتتحدى القتل والدمار وصمت "المجتمع الدولي".
من خلال هذه النماذج البشرية التي نقل المراسلون صور عن حياتها اليومية في معاناتها وتشبثها بالحياة والأرض، يمكن إدراك حسيا وبالعمق معاني الصمود والكرامة والاستشهاد في سبيل الله والحق والوطن. بعد أكثر من عام ونصف من حرب الإبادة، يمكن معايشة هذه المعاني وغيرها، "على الهواء" بفضل هؤلاء الفدائيين الذين يعملون، كما ورد في وصية الشهيد حسام شبات: "عملت كل هذا إيمانا بالقضية الفلسطينية. أؤمن أن هذه الأرض لنا، وكان أسمى شرف في حياتي أن أموت دفاعا عنها، وهي وخدمة أهلها."
في الضفة الغربية والقدس، لا يختلف الوضع كثيرا، من ناحية الهمجية الصهيونية التي صبّت وحشيتها على شعب أعزل ومنع الإعلام الفلسطيني من مواكبة حرب الإستئصال. فبات الاعتقال والملاحقة ومنع العمل الإعلامي ممارسة عادية لهؤلاء المتوحشين، إلا أن الإعلاميين الفلسطينيين واصلوا جهودهم وأوصلوا حكايات الأهالي التي تم نسف بيوتها وتهجيرها، والتي فقدت أبناءها بالقتل العشوائي أو الاستهداف الهمجي. نقلت العدسات صمود أهالي مسافر يطا في الخليل، وأهالي جنين وطولكرم وطوباس وبيت لحم، وتصدي بدو القدس وأريحا لمحاولات التهجير بعد سرقة المواشي وحرق ممتلكاتهم. كلها مشاهد صمود وتحدي في ظل غياب مؤسسات السلطة الفلسطينية، إلا في حالات الاعتقال والقمع وتبجح قواتها الأمنية بأنها تحافظ على "الأمن".
لقد تم توثيق وبث صور الوافدين الى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان وقبله وبعده وصمود المقدسيين أمام الهجمة الشرسة على أحيائها، رغم حملة تدمير المنازل التي ينفذها الكيان الاستيطاني، والحملة الترهيبية إزاء الاسرى المحررين في عملية "طوفان الأحرار". دخل المراسلون الفلسطينيون الى منازل الأسرى المحررين وبثوا شهاداتهم عن الإيام والسنوات التي قبعوا فيها في سجون العدو وأنواع التعذيب التي مارسها الوحوش الصهانية بحقهم.
إضافة الى هذه المواكبة اليومية للإعلام الفلسطيني في أنحاء الضفة الغربية والقدس، نقل مراسلون في قطاع غزة مقابلات مع أسرى تم اعتقالهم خلال حرب الإبادة وتحرروا من الجحيم الصهيوني، ونقلت أيضا بعض المواقع الإعلامية مقابلات مطوّلة مع أسرى محررين تحدثوا عن سيرتهم الجهادية قبل عقود، أي عن فصول من تاريخ المقاومة الفلسطينية، ونضالهم داخل الأسر.
تشكّل هذه المقابلات وكل ما ينقله المراسلون من أنحاء فلسطين مادة خام جديدة متجددة يمكن الانطلاق منها للكتابة عن صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني ولتأسيس أدب المقاومة من وحي الواقع اليوم.
وانطلاقا من هذه المادة الإعلامية الأولية، تجنّدت الجاليات الفلسطينية والعربية في دول العالم لنقلها باللغات الأجنبية الى الشعوب الحرة المتعطشة لمعرفة الحقيقة. لعبت هذه الجاليات، الى جانب الإعلاميين الأحرار في العالم، دورا مهما في توضيح المشاهد، مشاهد حرب الإبادة والإستئصال المدعومة من الغرب ذي التاريخ المتوحش من جهة ومن جهة أخرى، مشاهد البطولات اليومية للمقاومين في أنحاء فلسطين، حيث يتم ترجمة بياناتهم وتصريحاتهم، وبطولات الشعب الصامد ضد التهجير وتدمير الحياة.
استطاع الإعلام الفلسطيني، رغم امكانياته البسيطة نسبيا، وبمساعدة الجاليات العربية والإسلامية وأصوات الأحرار في العالم، من تفكيك أكاذيب الإعلام الصهيوني والغربي المتغطرس، وتقديم الصورة الحقيقية لحرب الإبادة والاستئصال ولمعركة "طوفان الأقصى" ولإنسانية المقاومين والصامدين في وطنهم.