قائمة الموقع

مواجهة جريمة الإبعاد ليست مستحيلة

2025-03-11T16:00:00+02:00
راغدة عسيران

تعدّ جريمة الإبعاد التي ينتهجها العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين إحدى الأساليب الظالمة لمواصلة التطهير العرقي منذ غزو فلسطين وتنفيذ المشروع الصهيوني، بدعم الغرب الامبريالي. لم يتمكن العدو من مواصلة مشروعه الإحلالي (استبدال الشعب الفلسطيني بمجموعات استيطانية يهودية) بعد النكبة في عامي 1947-1948 حيث طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم دفعة واحدة وأبعدهم الى دول الجوار، أو أبعدهم عن أرضهم وقراهم ومدنهم في الجزء المحتل عام 1948. لكنه استمر في مشروعه الأساسي، مستغلا كل ظرف أو حدث أو معركة في فلسطين المحتلة أو في المنطقة أو في العالم لإبعاد من يمكن إبعاده لأسباب مختلفة، يخترعها ويروّج لها، إضافة الى أنه يخنق المجتمع الفلسطيني بمنعه من تطوير ذاته وهدم بيوته وسرقة أراضيه وملاحقة شبابه، كي يفقد الأمل باسترجاع وطنه ويهاجر قسرا.

قد يكون الإبعاد الى خارج فلسطين أو الى منطقة أخرى داخل فلسطين، وقد يكون وفقا لتفاهمات أو اتفاقات مبرمة مع جهات دولية أو تحت إشرافها، أو دون أي تفاهمات مع أي جهة كانت. وقد يكون الإبعاد فردي أو جماعي أو فردي وجماعي بالآن ذاته، يطال فئة معيّنة من المجتمع الفلسطيني، على غرار ما حصل حين أبعدت القيادة السياسية (نواب ووزير) عن مدينة القدس الى الضفة الغربية قبل عقد من الزمن، وقد يكون بنيّة الإبعاد المؤقت أو الإبعاد النهائي

يخترع الصهيوني أسباب عديدة لتنفيذ جريمة الإبعاد، لكن يبقى الأساس وهو تهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه، بكل السبل، وإحلال مجموعات المستوطنين مكانه. إضافة الى السبب الأهم، يسعى الاحتلال الى زعزعة العلاقة بين الفلسطيني من جهة وأرضه وقريته، أو مدينته وحيّه ومجتمعه، من جهة أخرى، عندما يكون الإبعاد داخل فلسطين، كما حصل مع عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية المهجّرة داخليا في الجزء المحتل من فلسطين العام 1948، وذلك لأنه يفتقر الى هذه العلاقة، كونه تشكّل من مجموعات مبعثرة من الغزاة جاءت من وراء البحار، لا علاقة لهم لا بالأرض ولا بتاريخها.

يسعى أيضا العدو الى محو العلاقة بين الفلسطيني وتاريخه المقاوم، كما هو الوضع حاليا مع مخيمات شمال الضفة الغربية، إذ يعتقد أن الإبعاد الجماعي المؤقت للفلسطينيين عن بيئتهم المقاومة قد تزعزع علاقاتهم المجتمعية التاريخية وتجعل منهم أفرادا يبحثون عن إيواء وخلاص.

أما بالنسبة للأسرى المبعدين الى خارج الوطن، أو سابقا الى قطاع غزة، بشكل فردي أو جماعي، فقرار الإبعاد يستند في العقل الصهيوني الى قطع العلاقة بين الأسير ومجتمعه ومنع تكريمه وجعله إيقونة للأجيال القادمة، حيث يعتبر الكيان الاستيطاني أن وجود الأسير المحرّر بين أهله ومجتمعه قد يؤثر على معنوياتهم ويحفّزهم على المقاومة والنضال، خاصة أن كان قد تحرّر من الحكم المؤبد أو بعد معركة "الأمعاء الخاوية".

فالإبعاد عن القدس والمسجد الأقصى له أسباب أخرى تضاف الى مشروع التهجير، له علاقة بمكانة مدينة القدس والمسجد الأقصى لدى الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة عامة. يسعى العدو منذ استكمال احتلال القدس في حزيران/يونيو 1967 لتغيير معالم المدينة وتحويلها من مدينة عربية إسلامية الى مدينة غربية-"يهودية" لا أساس لها في التاريخ والجغرافيا. جريمة الإبعاد عن مدينة القدس، وخاصة الجزء التاريخي منها، وعن المسجد الأقصى، باتت اعتداءا يوميا على الفلسطينيين.

في الأشهر الأخيرة، وخلال شهر فبراير/شباط الماضي، أصدر العدو أكثر من 120 قرار إبعاد عن الأقصى والقدس القديمة بحق المقدسيين والفلسطينيين. خلال الشهر ذاته، أصدر وزير داخلية الكيان قرار إبعاد ثلاثة فلسطينيين عن مدينة القدس، منهم الأسيرة المحررة ضمن "طوفان الأحرار" زينة بربر، تنفيذا لقانون "ترحيل أقارب المقاومين وداعمي المقاومة".

وخلال شهر يناير/كانون الثاني 2025، أصدر 15 قرارا بالإبعاد عن مدينة القدس. طال قرار الإبعاد عن المسجد الأقصى العشرات من المقدسيين (مرابطين ومرابطات، وصحافيين وأسرى محرّرين ورجال دين ومناضلين) وشمل قرار الإبعاد الأسرى المقدسيين المحرّرين في عملية "طوفان الأحرار".

تدلّ الهجمة الظالمة على المقدسيين خاصة والفلسطينيين عامة (إبعاد مرابطين ومرابطات من الداخل المحتل عام 1948) على خشية الأجهزة الصهيونية من التحركات الجماهيرية غير المتوقعة من جانبها، ومن جهة أخرى، على إرادة الصهاينة في كسر تعلّق الفلسطينيين بالمدينة المقدسة من أجل تسريع تهويدها. من هنا تأتي الدعوات في شهر رمضان الكريم لتكثيف التواجد في القدس والمسجد الأقصى والدعوات لأداء صلاة الفجر والاعتكاف في رحابه، كخطوات جماهيرية لإثبات إسلامية هذا المكان وعروبته، رغم الاحتلال ومشاريع الترحيل.

هل يمكن مواجهة جريمة الإبعاد ؟

أثبتت المحطات التاريخية الحديثة أن الإبعاد الجمعي دون أي اتفاق مسبق يمكن مواجهته وكسره والعودة الى الوطن، كما حصل حين ارتكب الكيان الاستعماري جريمة الإبعاد بحق 415 قائدا وكادرا فلسطينيا في قطاع غزة والضفة الغربية من حركة حماس (الأغلبية منهم) وحركة الجهاد الإسلامي، الى مرج الزهور في جنوب لبنان ("المنطقة العازلة")، في يوم 17/12/1992. لم يكن في ذلك الوقت أي اتفاق مع أي جهة فلسطينية، أو عربية أو دولية، بل نُفّذ الإبعاد بعد ان اعتقل العدو الصهيوني أكثر من ألف مواطن من قياديي الحركتين، إثر قتل كتائب عزالدين القسام الجندي "الإسرائيلي" نسيم تولدانو الذي كانت قد أسرته سابقا لمبادلته مع عدد من الأسرى، ورفض كيان العدو التجاوب مع الموضوع

اضطرت الحكومة الصهيونية الى إلغاء قرار الإبعاد و"السماح" بعودة المبعدين الى فلسطين بعد أن نظّم المبعدون أنفسهم في "مخيم العودة" في مرج الزهور وجعل من قضية الإبعاد مسألة دولية في ذلك الحين، واستقطاب الاهتمام الدولي عبر الصحافة والمناضلين الذين توافدوا من أنحاء العالم، وخاصة من العالمين العربي والإسلامي. فصدر قرار من مجلس الأمن الدولي رقم 799 يدين عملية الإبعاد ويطالب السلطات الصهيونية بإرجاع كافة المبعدين. فعاد أغلب المبعدين على دفعات خلال العام 1993.

خلال انتفاضة الأقصى والاجتياح الصهيوني للضفة الغربية، تم إبعاد 39 مقاتلا من كنيسة المهد في بيت لحم. وفقا لنادي الأسير، "أفضت اتصالات داخلية ودولية الى إبعاد 39 مناضلا فلسطينيا، 13 منهم تم إبعادهم الى خارج الوطن و26 الى غزة". بعد مرور 20 عاما (اليوم 23 عاما) "فالاتفاق الذي تم بظروف غاية التعقيد وإجبارية في حينه، كان من المفترض أن يكون لعامين فقط إلا أنه استمر ل20 عاما". تثبت هذه الحادثة (الاتفاق على الإبعاد) أولا أن الكيان الصهيوني والدول الغربية لا تحترم الاتفاقات وثانيا، أن السلطة الفلسطينية المكبّلة باتفاق غير واضح لم تبذل جهودها الديبلوماسية والسياسية والشعبية لطرح مسألة عودة مبعدي كنيسة المهد.

يثبت هذان المثلان أن قرار الإبعاد عبر اتفاق معيّن أو تفاهمات مع جهات فلسطينية، عربية أو دولية، سيء بالأساس لأنه مبني على التفوّق العسكري الصهيوني والغربي وليس على الحق، وإن الدول، وخاصة كيان العدو، لا تحترم الاتفاقات أو التفاهمات، كما يتضح يوميا في المفاوضات بعد معركة "طوفان الأقصى".

فيمكن تجاوز هذه التفاهمات التي لا يحترمها العدو أصلا ولا المجتمع الدولي ومؤسساته، حول إبعاد الأسرى المحرّرين، لحين انجاز تحرير الأسرى الفلسطينيين، وتهيئة الجموع المناصرة لفلسطين لشنّ حملة واسعة تطالب بعودة المحرّرين الى وطنهم، كون الإبعاد هو بحد ذاته جريمة. ومن ناحية أخرى، كيان العدو كيان استيطاني غير شرعي، وتعدّ الجرائم التي يرتكبها يوميا بحق الفلسطينيين جرائم معادية للإنسانية، ومنها جريمة الإبعاد عن الوطن والمقدسات. لهذه الأسباب، يجب التأكيد أن لا شرعية لأي قرار أو قانون يصدر عن كيان العدو، ورفض التأقلم معه وشرعنته، بل السعي لتغيير الواقع لصالح مقاومة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامة

اخبار ذات صلة