راغدة عسيران
نحت أسير فلسطيني في سجون العدو هذه العبارة على جدران السجن، ملخصا الحالة المعنوية لدى الأسرى بعد إيام، أسابيع، أشهر، سنين وعقود من التعذيب والإذلال والمواجهات الدامية مع السجانين الصهاينة، الفئة الأكثر وحشية في المجتمع الاستعماري الصهيوني، بسبب وظيفتهم أولا وتدريبهم على القمع، ثانيا، ثم عقدة النقص التي تنخر نفسيتهم والتي يحاولون تجاوزها بصب وحشيتهم على من لا يمكن أن يدافع عن نفسه، ثم انتمائهم الى تيارات عقائدية ودينية ترى في موت الفلسطيني وغير اليهودي عموما حلا لوجودهم وسيطرتهم على البشرية ثالثا...
الحديث عن الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو الصهيوني له أبعاد عدة: التوحش الصهيوني قبل وبعد السابع من أكتوبر 2023، ماذا يعني كسر حكم المؤبدات الصادر عن المحاكم الصهيونية بحق أبطال المقاومة الذي نفّذته عملية "طوفان الأحرار" وهل تمثل هذه العملية مرحلة جديدة في مسيرة الحركة الأسيرة الفلسطينية، التي مرّت بمراحل حسّاسة ما بعد اتفاقيات أوسلو؟ تشكّل مسألة إبعاد المئات من الأسرى المحرّرين عن الوطن المحتل، إشكاليات إنسانية وسياسية وقانونية ستواجهها هذه الفئة المبعدة قسرا. ما هي الخطوات النضالية التي ستتخذ من أجل عودة هؤلاء الأسرى المحررين المبعدين الى وطنهم ومجتمعهم؟
أحد أهم الأبعاد الخاصة بالأسرى يتعلقّ بموقف سلطة محمود عباس من الحركة الأسيرة : رغم مركزية قضية الأسرى في وجدان الشعب الفلسطيني، تخلّت سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية عنها مؤخرا. كيف سينعكس هذا التخلي على الحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة وإن السلطة تقف اليوم بكل تبجّح في موقف معاد لطموحات الشعب الفلسطيني المتمثلة بالتحرير والعودة.
لقد ذكر الأسرى المحررون الجحيم الصهيوني الذي عصف بهم منذ بداية حرب الإبادة بحق أهل قطاع غزة. تحدّث بعضهم عن الأمراض التي كانت تفتك بهم، الأمراض الجلدية والداخلية، وعدم معالجتها بل التسبب بانتشارها عمدا، وعن الإهانات اليومية وعلى مدار الساعة بحقهم، الإهانات اللفظية والجسدية، وعن التعذيب الوحشي حتى الاستشهاد أو الإعاقة الدائمة، والطريقة غير الإنسانية لمعالجة الكسور، كبتر الأرجل أو اليدين، حيث يصبح الطبيب الصهيوني جزارا فاشيا يتلقى تعليماته من الأجهزة الامنية ويصبح السجان آلة قمع بحتة يمارس طقوس حيوانية بهدف الانتقام.
لكن هل هذه الطقوس والممارسات السادية مستحدثة نابعة من نيّة الانتقام من المقاومة بعد السابع من أكتوبر المجيد، أم أنها كامنة في طبيعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني خصوصا والاستعمار عموما ؟
قبل حرب الإبادة الحالية، وبعد استلام المدعو بن غفير وزارة الأمن، شنّ هجوما مسعورا على الأسرى، وألغى الكثير من الحقوق التي ضحّى من أجلها الأسرى، ولم تكن هذه الحقوق المنتزعة بالدم والجوع إلا حق من حقوقهم الشرعية بشكل عام، كما تعرّفها القوانين الدولية الخاصة بالأسرى.
يقول أحد الأسرى المحررين أن التعذيب والإهانات أصبحت ممارسات خارجة عن كل ضوابط السلطة، أي أن السجانين يمارسون طقوسهم السادية كما يحلو لهم. يتصرفون كما يتصرّف المستوطنون في الضفة الغربية الذين يقتلون ويخطفون ويطردون المواطنين من بيوتهم وأملاكهم ويدنّسونها بمواشيهم المسروقة.. وكما تصرّف الجنود الصهاينة من كافة التشكيلات في قطاع غزة، من القتل والقنص والتدمير والتعذيب. لكن هذه الجرائم المتكررة لم تكن يوما "فردية"، بل قرار الانفلات العشوائي والمنظّم في آن واحد، في السجون والضفة الغربية وقطاع غزة، صادر من أعلى المستويات السياسية والأمنية، والذي يعبّر عن أزمة الكيان الاستيطاني العميقة في تصديه للشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة.
فالإهانات والتعذيب والممارسات السادية بحق الأسرى الأبطال لم تغب يوما عن سجون العدو، منذ إقامته أو حتى منذ بداية الغزو الصهيوني، كما نقل العديد من الأسرى المحررين سابقا، ومن خلال توثيق الجمعيات المعنية بالأسرى. والسبب الرئيسي لذلك هو عدم اعتراف كيان العدو، بمختلف أحزابه وتياراته الصهيونية، بحق الشعب الفلسطيني في البقاء بأرضه، ناهيك عن حق المقاومة بطرد المحتل والعيش بكرامة على أرض الوطن. فهو بالتالي لا يتعرف بالقانون الدولي ولا بكل التشريعات الدولية التي تعترف ولو بالحد الأدنى بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه.
رغم وحشية المحتل وعدم شرعية وجوده في فلسطين، وجّهت سلطة محمود عباس مؤخرا ضربة قاسية للحركة الأسيرة، متجاوزة كل قرارات الحركة الوطنية الفلسطينية، بنفي الدور الوطني للأسرى وتصنيفهم وفقا للاحتياجات المادية لأسرهم، ما يشكّل تنازلا إضافيا من قبل هذه السلطة أمام الهجمة الصهيو-أميركية والغربية عموما على الشعب الفلسطيني ومقاومته. التخلي عن الأسرى كمكوّن أساسي في حركة التحرر الوطني ليس مستغربا من سلطة تلاحق أبناء الوطن المقاومين للعدو وتزجّهم في سجونها لسنوات وتعذّبهم وتهينهم سرا وعلنا لإسقاط هيبتهم أمام مجتمعهم، وكل ذلك من أجل ارضاء الإدارة الأميركية المجرمة والمجتمع الدولي، مموّل وجودها ووظيفتها.
رغم ذلك، لم تقنع بعد هذه الممارسات والتشريعات المعادية للقضية الفلسطينية، الصهاينة ولا الولايات المتحدة ولا المجتمع الدولي والأنظمة العربية، الذين ينتظرون منها اجتثاث فكرة مقاومة العدو وكل الظالمين، عن المجتمع الفلسطيني.
المشهد اليوم، بالنسبة للأسرى، يحمل مشاعر متناقضة: من جهة، الفرحة العارمة والابتهاج والشكر لله وللمقاومة بتحرير الأسرى وخاصة المحكومين بالمؤبدات الذين لا يمكن تحريرهم إلا بعمليات تبادل مع العدو، ومخطوفي قطاع غزة، ومن جهة أخرى، الهجمة السادية الصهيونية على الأسرى التي لم تتوقف، والتي تسببت باستشهاد العشرات منهم، وتنكّر الدول الغربية الاستعمارية لحقوق الأسرى الفلسطينيين وضرورة تحريرهم من الجحيم الصهيوني.
يعتقد الصهاينة أنهم سيفلتون من العقاب، بسبب الدعم الغربي الاستعماري لهم ولقياداتهم المتوحشة، وسعي الأنظمة العربية الموالية للغرب الاستعماري ترتيب أوضاع البلاد على جماجم وأرواح الشهداء والأسرى. لكن كتبها الأسير على جدران الزنزانة: لن نغفر ولن نركع.. فاختصر ببعض الكلمات ما ينتظر الصهاينة وداعميهم، بما فيهم الأنظمة العربية وإعلامها المتصهين والمتأمرك.