أسماء بزيع*
إعمار مشروط وسلاح مستهدف، هو مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الابتزاز السياسي، والتي طالما شهدناها على المسرح السياسي التي تديره أميركا في الشرق الأوسط. حيث تبرز معادلة جديدة على الساحة الإقليمية: إعادة الإعمار مقابل نزع سلاح المقاومة. هذه المقايضة ليست وليدة اللحظة، بل تتراكم في ظلال الحروب "الإسرائيلية" التي أنهكت غزة ولبنان على مدار عقود، والتي تحاول أميركا وحاشيتها من خلالها فرض واقع جديد يجعل من "إعادة الإعمار" ورقة ضغط لانتزاع ما فشلت القوة العسكرية في تحقيقه.
في غزة، يواجه الفلسطينيون كارثة إنسانية غير مسبوقة بعد العدوان "الإسرائيلي" المتكرر، حيث تحولت مدن وأحياء بأكملها إلى ركام، وتفاقمت معاناة الغزيين في ظل حصار خانق يمنع عنهم أبسط مقومات الحياة. وفي لبنان، تكرّرت المعادلة ذاتها، لكن بصيغة أكثر تعقيدًا، إذ تُطرح إعادة إعمار المناطق المتضررة من العدوان الإسرائيلي كمدخل لمناقشة ملف "سلاح حزب الله"، في محاولة مكشوفة لتحجيم دوره وفرض واقع استراتيجي جديد في المنطقة.
التلاعب بالمعاناة الإنسانية: سياسة العصى والجزرة
منذ عقود، تحاول القوى الغربية بالتنسيق مع "إسرائيل" استغلال الدمار الذي أحدثته بفعل عدوانها لفرض تنازلات سياسية وأمنية على المقاومة الفلسطينية واللبنانية. فمنذ انتهاء الحرب الكونية على قطاع غزة، تبرز الدعوات الدولية لإعادة الإعمار، لكنها دائمًا ما تكون مشروطة إما بتهجير سكان القطاع كما جاء في اقتراح الرئيس الاميركي، او بإخراج قادة المقاومة من قطاع غزة، وسحب سلاح المقاومة، وإبعاد حماس عن سلطة غزة، وإخضاع عملية إعادة البناء لرقابة أمنية مشددة، تحوّل القطاع إلى سجن كبير يخضع لمعايير أمنية "إسرائيلية" صارمة.
أما في لبنان، فالتكتيك مشابه لكن بحسابات مختلفة. فبعد كل مواجهة بين "حزب الله" اللبناني وعدوه السفّاح "إسرائيل"، يتصاعد الحديث عن ضرورة "ضبط السلاح"، ويترافق ذلك مع ضغوط اقتصادية خانقة تطال البلاد، تجعل من إعادة الإعمار، ودعم الاقتصاد اللبناني، ورقة ضغط إضافية لإجبار الحزب على تقديم التنازلات. ويأتي ذلك وسط مساعٍ غربية لإعادة تشكيل المشهد السياسي في غزة والضفة ولبنان والمنطقة، بما يتناسب مع الرؤية والمصلحة الأمريكية و"الإسرائيلية".
لماذا السلاح؟ ولماذا الآن؟
يُدرك صناع القرار في الغرب أن المقاومة في غزة ولبنان تشكل حجر عثرة أمام مشاريع الهيمنة "الإسرائيلية". فالردع الذي فرضته المقاومة في أكثر من جولة صراع بات عاملًا أساسيًا في منع "إسرائيل" من تنفيذ مخططاتها التوسعية دون تكلفة باهظة. ولهذا، فإن نزع السلاح ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو جزء من استراتيجية "إسرائيلية" تهدف إلى تقويض أي تهديد مستقبلي لكيان العدو، وإعاقة مخططاته.
كما أن توقيت هذه الطروحات ليس عشوائيًا، بل يأتي في ظل تحولات إقليمية كبرى، منها تطبيع بعض الدول العربية مع "إسرائيل"، ومحاولات خلق محور جديد يُعيد رسم خريطة القوى في الشرق الأوسط. وفي ظل هذا المناخ، تحاول "إسرائيل" والولايات المتحدة استغلال أزمات غزة ولبنان لتحقيق هدف تاريخي طالما سعت إليه: إنهاء المقاومة وتجريدها من سلاحها تحت غطاء "المساعدات الإنسانية"، لتسهيل انضمام الدول العربية الى حظيرة "أبراهام".
لكن، المقاومة في مواجهة الابتزاز ومعادلة الردع مستمرة. رغم الضغوط، تدرك فصائل المقاومة في غزة ولبنان أن القبول بهذه المقايضة يعني تسليم مفتاح الأمن القومي لـ"إسرائيل". فالتاريخ يشهد أن أي محاولة لنزع سلاح المقاومة كانت مقدمة لعدوان "إسرائيلي" أوسع، كما حدث مع المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1982، حين أدى نزع سلاحها إلى اجتياح بيروت.
وفي غزة، لم تكن عمليات إعادة الإعمار السابقة سوى فرصة للعدو لتعزيز سيطرته الأمنية، حيث جرى تقييد إدخال مواد البناء، وفرض رقابة صارمة على المشاريع التنموية، ما جعل القطاع رهينة لإرادة الاحتلال. ومن هنا، فإن المقاومة تدرك أن نزع سلاحها لن يؤدي إلى الأمن، بل إلى مزيد من الهيمنة "الإسرائيلية"، وتسريع عمليات التهويد، التي لا تستهدف غزة فحسب، وإنما الضفة الغربية المحتلة أيضا...
ما يجري في غزة ولبنان والضفة المحتلة، اليوم ليس مجرد إعادة إعمار، بل هو اختبار حقيقي لمعادلة الصراع في المنطقة، معادلة الاستقلال أو الهيمنة. فإما أن تبقى المقاومة قادرة على فرض توازن الردع، أو أن يتحول الإعمار إلى فخ يُستخدم لنزع آخر أسلحتها. وفي ظل هذه التحديات، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن فرض الأمن بالحصار، وهل يمكن بناء مستقبل مستقر في ظل شروط تعزز الهيمنة "الإسرائيلية" بدلاً من السيادة؟
*وكالة القدس للأنباء