بعد 15 شهراً من الحرب والتهجير في قطاع غزة، عاد مئات الألوف من النازحين الفلسطينيين إلى شمال القطاع سيراً على الأقدام، إثر انسحاب جيش الاحتلال "الإسرائيلي" من محور «نتساريم» وفتحه الطريق أمامهم. وأتى ذلك في أعقاب حل مسألة الأسيرة "الإسرائيلية"، أربيل يهود، والقائمة الخاصة بوضع الأسرى "الإسرائيليين" الذين تشملهم المرحلة الأولى من التبادل.
وبدت مشاهد عودة السكان نابضة بمشاعر الفرحة والشوق إلى لقاء عائلاتهم وأبنائهم الذين بقوا في الشمال. ولكن سرعان ما تبدّلت لحظات السعادة إلى حزن وغضب، مع بدء ظهور معالم الدمار الواسع الذي خلّفه العدو في منازلهم ومناطقهم السكنية.
وعلى شارع الرشيد البحري، الذي كان يوماً رمزاً لحضارة غزة وجمالها، لم يجد العائدون سوى ركام متكدّس ومخلّفات الحرب التي حوّلته إلى مسار وعر أشبه بساحة معركة مهجورة. كان السير عليه بمثابة اختبار قاس للنازحين، حيث تعثّرت أقدامهم بين الحفر وبقايا الإسفلت المحطّم، فيما بدت معاناة أصحاب الإعاقات أشد وطأة، إذ وجدوا أنفسهم عاجزين عن التقدّم وسط الطرقات المدمّرة. واضطر بعض العائدين إلى الاتكاء على أقاربهم لعبور الطريق، بينما كان آخرون يجلسون في انتظار من يساعدهم على تخطّي الخراب الذي غطّى كل شيء، في مشهد يجسّد حجم الكارثة التي تسبّب بها العدو لغزة وأهلها.
"عدتُ ولكنني لم أعد"
وسط الحشود المتدفّقة عبر حاجز «نتساريم»، كانت فاطمة شحيبر (31 عاماً) تمسك بيد طفلتها الصغيرة، بينما يسير أبناؤها الثلاثة بجانبها، يحملون حقائب صغيرة تحوي ما تبقّى لهم من حاجات. لم تتخيل يوماً أن تكون هذه اللحظة حقيقية، أن تعبر هذا الطريق عائدة إلى بيتها بعد 15 شهراً من التهجير، لكنها لم تكن عودة كما حلمت بها، إذ استشهد زوجها خلال غارة إسرائيلية على مدينة دير البلح، كما دُمّر منزلها بشكل كامل. وحين لامست قدماها تراب الطريق، انهمرت دموعها بغزارة.
نظرت إلى السماء وقالت بحرقة: «أخيراً عدتُ يا حسن، لكنك لست معي… كيف لي أن أعود إلى بيت لم يعد بيتاً، وإلى مدينة لم تعد كما تركناها؟». وفي اللحظة ذاتها، شعرت فاطمة بفرحة اجتاحت قلبها، على رغم الألم. وأمسكت بيد طفلتها بقوة وهمست لها: «نحن في غزة، هل تصدّقين؟ عدنا إلى حيث كنا نحلم بالعودة كل ليلة… كنا نظنها بعيدة، لكنها كانت تنتظرنا كما انتظرناها».
وحين وصلت إلى منزلها، جلست على الأرض، بين الركام، تحضن أبناءها، وتحاول أن تتمسّك بآخر خيط من القوة في قلبها. ثم رفعت رأسها وقالت، وكأنها تخاطب العالم بأسره: "هدموا بيوتنا. سرقوا أحلامنا، لكنهم لم ينتزعوا غزة من قلوبنا".
"اليوم عيد"
على كرسيّها المتحرّك، كانت الحاجة أم سليمان بركات تتقدّم ببطء وسط الحشود العائدة عبر الحاجز ونجلها يدفعها من الخلف. وجهها يضيء بفرح طفولي نادر، وعيناها تلمعان كأنهما تستعيدان الحياة التي سرقتها الحرب. لم تكن تتوقّع أن تعود إلى غزة، وأن تمر من هذا الطريق الذي كان مغلقاً بالموت والخوف، لكنها اليوم تعبره والهواء يملأ رئتيها، فتطلق صوتها عالياً بالغناء: «شُدّوا بعضكم يا أهل فلسطين… شُدّوا بعضكم». ضحكت الحاجة أم سليمان وهي تنظر إلى من حولها، وكأنها تريد أن تذكّرهم بأن غزة لا تموت، بأن أهلها يعودون مهما طالت الأيام، فيما كان العابرون يتوقّفون للحظات، يبتسمون لها، ويردّدون معها كلمات الأغنية.
وحين اقتربت من المدينة، تسارعت دقّات قلبها؛ إذ قيل لها إن منزلها لم يُهدم، وإنه لا يزال صامداً وسط الدمار. لم تصدّق ذلك، لكنها حين رأت بيتها من بعيد، شهقت، وضمّت يديها المرتعشتين إلى صدرها وقالت بصوت مرتجف من الفرح: «ياه… لم يُهدم! بيتي هنا. جدرانه لا تزال قائمة، أبوابي لم تُخلع! الله أكبر، اليوم عيد… اليوم عيد!» وسالت دموعها، لكنها لم تكن دموع الحزن هذه المرة، بل دموع الفرح الخالص. والتفتت إلى حفيدتها، وقالت وهي تمسح عينيها: «سأدخل من بابي كما كنت أفعل دائماً، وسأجلس في مكاني المفضّل، وسأشكر الله ألف مرة. يا الله كم اشتقت لرائحة هذا البيت!".
"أخي… أخيراً!"
في شارع أبو إسكندر شمال مدينة غزة، كان محمود عبد العال يقف مذهولاً، ويبحث بعينيه عن وجه يعرفه وسط العائدين، حتى لمح أخاه ياسين يسير نحوه، ويحمل على ظهره حقيبة كبيرة. كان وجهه متعباً، لكنّ عينيه تشعّان فرحاً. لم ينتظر محمود لحظة أخرى، بل ركض إلى أخيه واحتضنه بقوة، هاتفاً: «15 شهراً يا ياسين! 15 شهراً لم ألتق بك!». ضحك ياسين وهو يمسح دموعه بظهر يده، وقال: "ها أنا أمامك، حي كما ترى، ولم أعد وحدي… عدتُ ومعي غزة في قلبي!".
وجلس الأخوان على ركام منزل العائلة الذي دمّرته الحرب، ينظر أحدُهما إلى الآخر، وكأنهما لا يصدّقان بأنهما التقيا أخيراً. وقال محمود مبتسماً: «سنبدأ من جديد يا أخي… غزة لا تموت، ونحن أيضاً لن نموت بالحزن. سنعيد بناء حياتنا كما كنا دائماً». هزّ ياسين رأسه مؤيّداً، ثم نظر إلى السماء، وقال: «المهم أننا عدنا… والأهم أننا معاً». (المصدر: الأخبار اللبنانية)