/مقالات/ عرض الخبر

غزة: ماذا بعد وقف إطلاق النار؟

2025/01/19 الساعة 05:49 م

أسماء بزيع*

حين تهدأ أصوات المدافع، وتتناثر أشلاء الصواريخ الباردة على تراب غزة، ويُعلن الصباح هدنة بين الحياة والموت تبدأ غزة في فضح ما خلّفته الحرب "الإسرائيلية" على القطاع المحاصر، فينكشف الستار عن شلّال دم لم يغادره الألم منذ 15 شهرًا. غزة ما بعد وقف إطلاق النار ليست إلا مرآة تُظهر وجهًا خفيًا للحرب، وجهًا يروي حكايات من الصمود والإبادة، من الدمار والإجرام والأمل، من الموت وإرادة الحياة التي ترفض الانكسار. فما بعد وقف إطلاق النار، مشاهد لا تُنسى.

سيرى العالم شوارعً لا تعرف شكلها الأصلي، أنهكها الدمار. وبيوتًا تحولت إلى أنقاض، وأحياء صامتة تخفي تحت ركامها قصصًا لم تكتمل. كانت طرقًا آمنة تسلكها الأقدام ذات يوم، أما اليوم، فهي متاهات من الركام والحجارة، مشبعة برائحة الموت وعبق الذكريات المطمورة تحت الأنقاض. سنرى الطرقات، وقد تحولت إلى أنهار من الغبار والركام، بقايا منازل كانت يومًا تضم ضحكات الأطفال. ستعبر الأزقة، فتجد الجدران تحمل وشومًا سوداء، رسائل صامتة تروي قصص الليالي الحالكة، وأشلاء ذكريات اختبأت بين الحجارة المحطمة.

هنا لعب طفل، وهناك كانت ساحة اجتماع العائلة، والآن لا صوت إلا الصمت القاسي، الذي يصرخ في وجوه الجميع: من يعيد لهذه الأرض معالمها؟ سيفتح الناس أبواب منازلهم، أو ما تبقى منها، ليجدوا أطياف من كانوا هنا ذات يوم. صور العائلة مبعثرة، كتبٌ مدرسية مشوهة بالحريق، ومقاعد مقلوبة تنوح كما لو أنها شهدت مجزرة الكرامة. البيوت التي كانت ملاذًا آمنا ودافئًا تحولت إلى هياكل عظمية، كل جدار فيها يحكي قصة ألم، كل نافذة محطمة تخبرك عن الريح التي زارتها قسرًا ذات ليلة.

سيكشف وقف إطلاق النار عن أجيالٍ لم تعد كما كانت؛ أطفالٌ في أعمار الورود، يحملون على أكتافهم ما لا تستطيع جبال الصبر احتمالها. عيونهم تخفي في داخلها حربًا لم تنتهِ، وقلوبهم الصغيرة تحمل ذاكرة دمار تفوق عمرهم بأجيال. هم ليسوا أطفالاً عاديين، بل أبطالٌ كُتب لهم أن يكونوا شهودًا على معاناة الإنسان، وشركاء في كفاح الأرض. 

بعد وقف إطلاق النار، ستظهر غزة كجرحٍ نازف، لكنه ممتدّ عبر الزمان والمكان.

ستكشف عن مشافٍ مكتظة بالجرحى، وأمهات ينتظرن أنباء عن أحبائهن المفقودين، وعن أيادٍ تعمل بلا كلل لترميم ما أمكن من حياة. لن تكون هذه المشاهد مجرد صورٍ عابرة، بل هي شواهد على جرائم تُكتب بحبر الألم على صفحات التاريخ.

في العيون، سترى بريقًا مطفأً، وفي الوجوه تجاعيد لا تليق بالعمر. أطفال بملابس مرمّلة ممزقة، يحملون في عيونهم أسئلة لا إجابات لها. يسيرون بين الأنقاض، يبحثون عن دمى اختفت تحت الركام، أو عن ظلٍّ كان ذات يوم يمنحهم دفء الأمان. هنا تحت الأنقاض، تنبض ذاكرة المآذن، تحكي عن أذانٍ كان يعلو فوق صوت الطائرات. وفي الأزقة الضيقة، تصرخ الريح كأنها أرواح الشهداء، تداعب وجوه الأحياء، فتخبرهم أنّ الكفاح لم ينتهِ.

بعد وقف إطلاق للنار، سيحدق الأطفال في السماء بعيون مليئة بالتساؤلات، كيف لهم أن يفهموا هذا العالم الذي ينتزع الأمان من أحضانهم؟ كيف نعيد لهم طفولتهم التي دفنت تحت الركام؟ سترى الأمهات، يتلمّسن التراب بصمت، ويتساءلن عما سيأتي بعد كل هذا الألم؟ يحملن بين أذرعهن صورًا لأحبة لن يعودوا، عيونهن ترنو إلى السماء، كأنها تستجدي الغيم أن يمطر هوانًا يعوضهنّ عن كل ما أُخذ منهن. وحينما تحدثهن، ستسمع أصواتهنّ المبحوحة، مليئة بالحزن، لكنها لا تخلو من عزة وصمود يليقان بمن حملوا على عاتقهم معنى الحياة رغم الموت. 

في المستشفيات المزدحمة، ستجد أسرّة قليلة لا تكفي لمن احتضنهم الألم. ستجد جروحًا مفتوحة، ووجوهًا خالية من التعبيرات، فقد اختلط الألم بالجوع، وتداخلت مشاعر الغضب والخوف. ستجد يدًا هناك تحتضن أطرافًا مبتورة، وأعينًا مطفأة. وإذا أمعنت النظر في الشوارع، ستجد رجلًا عجوزًا يجلس على حافة دكانٍ منهار، يحدّق في المجهول. في يده مسبحة، يُدير حباتها ببطء، كأنه يحصي كل لحظة نجت فيها روحه من الحرب. بجواره شابٌّ يقف على حطام متجرٍ، يملأ الهواء بنظرات خرساء، كأنه يبحث عن إجابة لسؤالٍ لم يسأله بعد. 

بعد وقف إطلاق النار، ستكشف الأيام عن وجوه أنهكها الحزن، عن عيون ترقب العودة إلى حياة طبيعية باتت حلمًا لربما بعيد المنال. سيُفتح الباب على مصراعيه للأسئلة الكبرى: كيف نعيد بناء ما تهدم؟ وكيف نداوي جراح القلوب؟ سترى، أيضاً، ما لا تستطيع العين وحدها استيعابه: صموداً رغم الجراح. نساءًا يجمعن الحجارة لإعادة بناء البيوت، رجالاً يتكاتفون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أطفالًا يلهون في الشوارع المدمرة، يرسمون على الجدران مستقبلًا وأمل.  سيرى الناس حشودًا تبدأ بإزالة الركام، أيادي ترتجف من التعب لكنها مصممة على إعادة الإعمار.

 سيشاهدون أطباء يهرعون لمعالجة جرحى لم تسعفهم الحرب، ومزارعين يحاولون إعادة الحياة إلى أرضهم التي صارت رمادًا. لكنهم أيضًا سيرون إرادة لا تنكسر.

في زوايا المدن المدمرة، سيشاهدون أطفالًا يركضون خلف طائرة ورقية، وشبابًا يجمعون حجارة ليبنوا بها أحلامًا جديدة، وشيوخًا يروون لأحفادهم عن أيام صعبة، لكنهم يصرون على أن الأمل أقوى من الحرب. 

غزة بعد وقف إطلاق النار ليست مجرد مشهد من الدمار، إنها شهادة على أنّ الحياة لا تعرف الهزيمة. هي قصة شعبٍ يقف فوق الركام ليُعيد بناء عالمه، ويكتب بتعبه ودموعه، بل وحتى دمائه، فصولًا جديدة من الكرامة والثبات. 

وفي عمق هذا المشهد المؤلم، ستسمع صوتاً داخلياً يقول لك: هنا، حيث تتجلى المأساة، يولد الأمل من قلب الرماد. لأن غزة، وإن جُرّدت من كل شيء، لا تزال تحمل في قلبها نواة الحياة، كنبض لا يتوقف مهما حاول الظلم أن يخنقه. وبعد وقف إطلاق النار، سيرى الناس الحقيقة العارية: أن الحرب لا تترك منتصرًا، وأن السلام الحقيقي لا يأتي بمجرد صمت المدافع. إنه طريق طويل يبدأ من العقول التي تؤمن بالمستقبل،  والقلوب التي ترفض الكراهية، فتحمل بندقيتها وتقاوم. ما سيراه الناس ليس فقط ما كان، بل ما يمكن أن يكون. عالم جديد يخرج من الرماد، يبنيه شعبٌ لا يفقد إيمانه بالحياة، مهما كان الثمن.

غزة بعد وقف إطلاق النار ستكشف للعالم حقيقة المقاومة: ليست فقط سلاحًا يقاتل، بل روحًا لا تنكسر. ستظهر أنها ليست مجرد مدينة محاصرة، بل فكرة تعيش في كل قلب ينبض بالحرية. تلك الفكرة التي تقول إن الظلم، مهما طال أمده، لا يمكن أن ينتصر على إرادة الحياة، وإن الأرض، مهما نزفت، ستنبت يومًا زهورًا جديدة. حين يكشف الركام عن وجه غزة، سيرى العالم درسًا بليغًا في التحدي: الصمود ليس مجرد كلمة، بل طريقٌ طويل تسلكه النفوس العظيمة، وغزة ليست فقط ضحية، بل رمزٌ للأمل الذي يولد من قلب المأساة، مثل شمسٍ تعلو من بين الغيوم الداكنة لتضيء طريقًا لا نهاية له إلا بالنصر.

*وكالة القدس للأنباء

 

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/212222

اقرأ أيضا