راغدة عسيران
قبل أيام، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، في المدة الواقعة ما بين 8/10/2023 وحتى 20/5/2024، حين قدّم المدعي العام الدولي، كريم خان، طلبات إصدار مذكّرات الاعتقال. يشتمل الاتهام على ارتكاب جريمة الحرب المتمثلة في التجويع، والجرائم بحق الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد. كما يتحمل نتنياهو وغالانت المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في توجيه هجمات عمدا ضد السكان المدنيين في قطاع غزة.
قد يصدر لاحقا قرار اتهامي بحقهما، بعد مثولهما أمام المدعي العام.
رغم ذلك، أثار قرار المحكمة الجنائية الدولية ردود فعل صاخبة، وخاصة من قبل الولايات المتحدة وكيان العدو، التي رفضته واعتبرته نوعا من الإهانة موجّه ضد كيان استعماري غربي يدافع عن قيم "الحضارة الغربية" (كما تباهى نتنياهو في الولايات المتحدة) بقتل "حيوانات بشرية" (كما صرّح غالانت) في حديثه عن الفلسطينيين في قطاع غزة. وهدّد سيناتور أميركي بالهجوم على "لاهاي" وفقا لقانون أميركي "غزو لاهاي" صدر في العام 2002، لإطلاق سراح كل محتجز صديق للولايات المتحدة.
لقد رحبت الفصائل الفلسطينية عموما بالقرار واعتبرت أنه جاء متأخرا جدا" (حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين)، ويشكّل "سابقة تاريخيّة مهمة، وتصحيحاً لمسار طويل من الظلم التاريخي للشعب الفلسطيني" (حركة حماس). وطالبت الجبهة الشعبية "ترجمته إلى خطوات عملية على أرض الواقع" فيما قالت حركة المجاهدين الفلسطينية انه "كان يجب أن يشمل جميع قادة العدو السياسيين والعسكريين وجنوده."
كيف يمكن فهم إصدار هذا القرار وفي هذا الوقت بالتحديد ؟
بعد إصداره، صرّحت عدة دول أوروبية بأن إصدار مذكرات التوقيف بحق مجرمي الحرب نتنياهو وغالانت نابع عن قرار مستقل للمحكمة الجنائية، وغير سياسي، وبالتالي يجب احترامه. قد يكون القرار مستقلا قانونيا، أي انه يراعي الأنظمة القانونية المتبعة، لكنه قرار سياسي جاء لإنقاذ الدول الأوروبية من تبعات حرب الإبادة الجماعية عليها، ولإنقاذ سمعة الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة التي لم يتجرأ أحد من مسؤوليها الوقوف أمام الولايات المتحدة واتهامها مباشرة بمسؤوليتها في حرب الإبادة.
لذلك، يمكن اعتبار أن التوقيت لإصداره هو سياسي، أولا بسبب الضغوط السياسية التي مارستها الولايات المتحدة على المحكمة لمنعها من إصداره، حيث رجحت جهات مختصة أنه كان يمكن إصدار القرار قبل ثلاثة شهور، لولا هذه الضغوط. ثم تم إصداره بعد ساعات من استخدام الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن الدولي لعرقلة قرار يدعو الى "وقف إطلاق النار في غزة"، أي أن الولايات المتحدة، الشريكة والممّوّلة الرئيسية لحرب الإبادة الجماعية في غزة، تحدّت أعضاء مجلس الأمن والأمم كافة، وأعطت الضوء الأخضر للمجرمين المتوحشين لاستكمال جرائمهم. فكان إصدار مذكرات التوقيف بهذا التوقيت ردا غير مباشر على الموقف الأميركي.
من ناحية أخرى، يجب التأكيد على أن مذكرات الاعتقال بحق المجرمين الصهاينة لم تكن لتصدر لولا صمود المقاومة وشعبها، التي ما زالت تدك الجيش الصهيوني ومرتزقته من شمال الى جنوب القطاع. فلو تمكّن الصهاينة المجرمين من القضاء على المقاومة (لا سمح الله)، لكان صدر من قبل الهيئات الدولية كلها، ليس فقط مذكرات توقيف ومحاكمة لكل الناجين من حرب الإبادة، بل اعتبار يوم "إنتصار" نتنياهو وقبيلته، عيد عالمي يسجّل في الأمم المتحدة كيوم عالمي للانتصار على "الحيوانات البشرية". فالمقاومة الشجاعة والبطلة والحامية للكرامة الإنسانية، ولتاريخ وحاضر ومستقبل الأمة، هي التي أوصلت شعوب العالم الى رفض كيان العدو وإدانة كل من يدعمه، وتغيير المشهد العالمي لصالح فلسطين والفلسطينيين، وبالتالي تخوّف الدول الغربية خاصة من تداعيات حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني على العالم.
تخشى الدول الغربية، لا سيما الأوروبية، من أن تطالها مسؤولية الجرائم التي ترتكب باسمها وباسم حضارتها، كما تخشى تزعزع أنظمتها بعد تجرؤ الصهاينة التدخل في قراراتها الداخلية، أو بسبب دعمها لكيان العدو، كما هو الحال حاليا في هولندا، حيث شهدت صراعا بين محاكم تطالب بوقف بيع الأسلحة للعدو وبين الحكومة التي ترفض الرضوخ لها.
تحاول الحكومات الأوروبية العمل كل ما بوسعها لإسكات الأصوات الحرة، بدءا من اعتبار الداعمين لفلسطين والحق الفلسطيني "معادين للسامية"، وصولا لاعتبارهم "إرهابيين" وملاحقتهم ومحاكمتهم، غير آبهين بالسردية التي اخترعوها لقمع الشعوب وإدانة الدول غير الغربية (فنزويلا قبل أسابيع ودول الساحل في إفريقيا قبل سنة).
إلا أنها تحاول، في الوقت ذاته، تبرئة نفسها من مسؤولية الإبادة الجماعية، رغم مواصلة بعض دولها إرسال الأسلحة والمرتزقة، من خلال قرار الجنائية الدولية، الذي وافقت عليه معظم الدول الأوروبية لفظيا على الأقل، لتهدئة الجو العام المضطرب بسبب مواصلة حرب الإبادة. بالنسبة لها، يمكن التضحية بشخصية أو شخصيتين غير متفق عليهما في "إسرائيل"، مقابل إنقاذ هذا الكيان الاستيطاني الممثل للمصالح الغربية، وإنقاذ هذه الدول، وخاصة الأوروبية، التي تلطخت سمعتها عالميا خلال حرب الإبادة الجماعية، وضمان استمرارية السيطرة الغربية على المنطقة.
كيف تؤثر مذكرات الاعتقال على كيان العدو
لهذا القرار تأثير معنوي واضح، إذ يتم لأول مرة منذ نشأة المحكمة في 2002 اتهام شخصيات تنتمي الى الغرب الاستعماري بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من جهة ومن جهة ثانية، يمنح القرار مصداقية أكبر للسردية الفلسطينية والعربية المقاومة، أمام الإعلام الكاذب الصهيوني وملحقاته العربية والغربية.
اعتبر المحللون أن قرار الجنائية الدولية قد يعزل الكيان الاستيطاني في العالم، لا سيما في العالم الغربي الذي ينتمي اليه ويمثل مصالحه، لكن ذلك مشروط بتطبيق واحترام القرار من قبل الدول الأوروبية أولا، أي مساعدة المحكمة بإلقاء القبض على المجرمين ليتم محاكمتهما. ما يعني أن عزل كيان العدو قد يتوسع من الشعوب المتضامنة مع الحق الفلسطيني الى دولها، إذا صدقت هذه الأخيرة.
فعزل الكيان وممثليه وملاحقتهم قد بدأ على المستوى الشعبي في الدول الغربية، كما ورد في الأخبار المتداولة. لقد ألغى وزير المالية الصهيوني سموتريتش قبل أسابيع رحلة الى باريس بعد الحملة التي قامت بها منظمات داعمة للشعب الفلسطيني، حيث كان ينوي ترؤس حفل لتمويل الجيش الصهيوني. وتمكّنت جمعية أوروبية من ملاحقة ضابط شارك في المجازر في غزة، فاضطر ان يغادر قبرص بسرعة قبل القبض عليه.
ورفضت أستراليا استقبال وزيرة صهيونية سابقة بعد حملة إعلامية اتهمتها بتأجيج الكراهية. ما يعني أن التحرك الشعبي مؤثر ومجدٍ أكثر من التحرك الرسمي. فملاحقة الجنود والضباط والسياسيين الصهاينة، في العالم، لارتكابهم كل هذه الجرائم قد تتم عن طريق الجمعيات المناهضة لكيان العدو. التحرك الرسمي يضيف صفة قانونية للعزل والمقاطعة ويؤثر إعلاميا.
باختصار، المحكمة الجنائية الدولية هي إحدى المنظمات الدولية التي ابتدعها الغرب الاستعماري لضبط ومواجهة حركات التحرر في العالم. قد يصدر عنها أحيانا، عندما تشعر بتزعزع مصداقيتها أمام الشعوب، قرارات مفيدة لصالح التحرر من السيطرة الغربية. لكن التحرك الشعبي في العالم الذي يرافق صمود الشعب على أرضه والمقاومة المسلحة البطلة يظلّ الأساس في الصراع.