شاع الحديث عن "الشرق الأوسط الجديد" كفكرة تطمح لتغيير واقع المنطقة منذ بدايات التسعينيات، فلنتذكر جيداً أن هذا المصطلح سبق وأن سوقت له كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية بين الأعوام 2005 – 2009، حيث خرج المشروع إلى العلن في واشنطن و"تل أبيب" وأعلنت رايس خريطة الشرق الأوسط في مؤتمر صحافي، بتصفيق من الغرب، أسندت فيه إليها وسائل الإعلام الغربية الفضل في نحت المصطلح ليحل محل المصطلح الأقدم، ألا وهو "الشرق الأوسط الكبير". وهو سليل مجموعة من المصطلحات الأخرى مثل "النظام العالمي الجديد".
أمّا في الآونة الأخيرة وفي وقت لا زال فيه قطار الحرب مستمرًّا في جولته التي بدأت في غزة، مرورًا برَفَح والضفّة، وصولًا، وليس آخِرًا، إلى لبنان، وبعد أن ظننا لفترة أن مثل هذه المصطلحات قد دفنت بلا رجعة، تردد مصطلح "الشرق الأوسط الجديد"، على لسان شخصيات أميركية وأخرى "إسرائيلية"، وخاصةً في إعلان وزيرة الخارجية الأميركية بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في الحرب الأخيرة، بأن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب. فما هو هذا الشرق الأوسط الجديد؟ هل هو بالفعل جديد؟!
ما خرج مؤخرًا على لسان رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هو نفسه حلم شمعون بيريس الذي أطلقه في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، تحدث فيه عن المشروع وكيفية تحقيقه بشرق جديد "لا تمثّل فيه النزاعات الجغرافية أو القومية عقبة أمام التجارة والتعاون الاقتصادي" وبالمعنى الأوضح لأصحاب الضمير والقضية (التطبيع الاقتصادي). ومن خلاله ستكون "إسرائيل"، بحسب حلم بيريز، "سنغافورة" هذا الشرق الأوسط الجديد.
ويدرك المتابع للأحداث أن مظاهر التقسيم السياسي الجارية في كل من العراق وسوريا واليمن، إضافة لعلاقات طفل أميركا مع بعض الدول العربية، ليشمل التبادل الإقتصادي، استراتيجية واشنطن بتنفيذ المشروع. فقد شهد العقد الأخير تطورًا لافتًا في العلاقات بين "إسرائيل" وبعض دول الخليج العربي. ووُقِّعت اتفاقيات تطبيع تم الإعلان عنها كخطوة نحو سلام إقليمي مزعوم، لكنها تحالفات محفوفة بواقع جديد مؤلم وغير مألوف لكثير من الأطراف، عنوانه الهزيمة الاستراتيجية ليس لـ"إسرائيل" فقط، بل أيضاً لكل حلفائها في المنطقة..
إلى جانب ذلك، كان نتنياهو قد عكس في خطاباته الأخيرة وحديثه عن محور “النعمة” ومحور “اللعنة” عبر استحضار نصوص توراتية لإضفاء بُعدٍ أيديولوجي على الحرب العدوانية الصهيو-أميركية على غزة ولبنان وبقية جبهات محور المقاومة، مشفوعًا برؤية صليبية متجدّدة، تبطن نزعًة استعمارية تقوم على تقسيم العالم إلى معسكرين: نحن والآخر. وهذا على أساس أن "محور النعمة" يشمل دولًا عربية مثل السعودية والإمارات والبحرين والأردن إلى جانب الكيان الإسرائيلي ومعها الولايات المتحدة وأوروبا، فيما يغطي "محور اللعنة" المساحة الممتدة من إيران والعراق وسوريا ولبنان إضافة إلى اليمن.
أمَا في عرضه خريطة لـ"لشرق الأوسط الجديد" المزعوم، يتم تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية بالجنوب، ودولة سُنية بالوسط ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن. أمّا السعودية فيقترح أن يقتطع منها كل من مكة والمدينة المنورة حتى تنشأ فيها "دولة إسلامية مقدسة" على رأسها مجلس يترأسه بالتناوب أحد ممثلي الحركات والمدارس الإسلامية الرئيسية، أي أن يكون المجلس نوعا من "فاتيكان إسلامي أعلى".
كما يقترح إضافة الأرض المقتطعة من شمالي السعودية إلى الأردن، وأن تقتطع أرض من جنوبي البلاد كي تضاف إلى اليمن، وأما شرقي البلاد فلن تسلم أيضًا من المقص، إذ تقتطع منها حقول النفط لمصلحة دولة شيعية عربية تدور في فلك المصالح الأميركية. أما الأردن فستحتفظ بأراضيها وتضاف إليها أرض من شمالي السعودية، إضافةً لارتباط "مستقبل الضفة الغربية بها".
مشروع أميركي محكوم بالفشل
يبدو أن الولايات المتحدة بعد أن ذاقت مرارة الفشل في العراق وأفغانستان قررت أن تعهد لطفلها بتنفيذ مخططها الاستعماري بدءًا بالترانسفير الموهوم وصولًا لاستخدامها كلَّ أنواع البطش والإجرام بحق أهالي غزة، وذلك ظنًا بأنها ستحقق مكاسب حقيقية في إخضاع المقاومة الفلسطينية أو القضاء عليها، ثم تقوم بتدمير لبنان وحكومتها فيتحول لبنان إلى بلد "ديمقراطي" يدور في فلك المصالح الإمبريالية الأميركية.
لكن خريطة التفاعلات والديناميات في الشرق الأوسط تغيرت تغيرًا متسارعًا، خاصة بعد حرب روسيا وأوكرانيا، وتلك التي في السودان، والأهم بعد "طوفان الأقصى"، الذي أظهر أن هناك فجوة مصالح بين أميركا والكيان الإسرائيلي، رغم دعم الولايات المتحدة اللامحدود لها، وفشلها الذريع في حسم المعركة وتحقيق أهدافها المعلنة في غزة بعد سنة من العدوان وحرب الإبادة الجماعية، عدا عن المشاريع الاقتصادية والكوارث الطبيعية، ولا سيما انهيار سدّ درنة في ليبيا، والزلازل في تركيا وسوريا والمغرب، وصولًا إلى ما يجري اليوم من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على لبنان، وفشلها الثاني في عدم استطاعتها إعادة مستوطنيها في الشمال، وإلزام حزب الله بالتراجع إلى شمال الليطاني، وفصل الساحات عن بعضها بعضًا.
فما تقوم به "إسرائيل" من مجازر يومية في غزة ولبنان يراكم الغضب الشعبي في الشرق الأوسط، ويزيده اشتعالاً تجاهل الأنظمة العربية لهذه الأحداث وعدم اتخاذ موقفًا حازمًا. وكذلك تجاهل الولايات المتحدة الأميركية هذا الغضب، معتقدة أن الأنظمة الحليفة قادرة على السيطرة على شعوبها. ولكن إذا استمرت أميركا في تجاهل الرأي العام في المنطقة، سيكون خطأ أميركيًا إستراتيجيًا، سيدفع المنطقة أكثر باتجاه الطرف الآخر المنافس للهيمنة الأميركية. في ظل تحالفات جديدة وتغيرات متسارعة ومفاجآت لن تستطيع أميركا منعها، وفي وقت بات الجميع فيه يبحثون عن موطئ قدم في عالم يسير بسرعة متزايدة نحو تعدد الأقطاب.
ومن هنا نستطيع القول، بأن حدود "سايكس بيكو" قد انهارت حين اتحد الغرب والأعراب لدعم ربيبتهم "إسرائيل"، ونجحت جبهات المحور في إنتاج واقع استراتيجي وإقليمي نقيض لما يتوقعه الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها الاحتلال الإسرائيلي، رغم أنف "المعتدلين" وجماعة "ثقافة الترفيه" وذلك دون أن تهتز وحدة الساحات ولا الوحدة التي حمت إلى الآن ساحات المحور، وهذا ما يُقلق العدوّ في معركة اليوم.
*وكالة القدس للأنباء