راغدة عسيران
منذ السابع من أكتوبر 2023، قتل العدو الصهيوني، عمدا في أغلب الأحيان، 172 صحفيا في قطاع غزة، ضمن حرب الإبادة المستمرة، آخرهم هو الشهيد محمد عبد الفتاح عبد ربه، الذي قتل في 29/8/2024.
خلال شهر ’ب/أغسطس 2024، استشهد 7 صحفيين في قطاع عزة من جراء المجازر التي يرتكبها العدو. ذكر مكتب الإعلامي الحكومي في غزة (احصائيات 31/8) حالة اعتقال 36 صحفيا "ممن عُرفت أسماؤهم" ولم يفرج إلا عن البعض منهم، حيث أن العدو "يلمّح بتورط صحفيين بغزة بالإرهاب وهذا ما يعرّضهم للخطر"، وفقا للاتحاد الدولي للصحافة (إعلان 16/8).
وفي الضفة الغربية، اعتقل العدو منذ 7/10/2023، 94 صحفيا وافرج عن نصفهم تقريبا، وأصدر أحكام بالاعتقال الإداري ضد بعضهم، آخرهم الصحفي حازم ناصر في يوم 2/9/2024. وخلال عدوانه الهمجي الأخير على مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية، كان يهدّد الإعلاميين ويمنعهم من حرية الحركة، ويطلق النار عليهم كما حدث في بلدة كفردان – جنين في يوم 2/9.
ليس من المستغرب أن يحارب العدو الصهيوني الإعلاميين الفلسطينيين الذين ينقلون الحقيقة حول الحرب التي يشنّها على الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، والذين يسردون الحقيقة حول الصراع بين الصهاينة والشعب الفلسطيني على أرضه ومقدساته. فمن خلالهم، نتعرف على صمود أهل غزة وشجاعتهم وآمالهم وحبهم للمقاومة، ونتعرف على الشهداء وأهلهم ومقاومتهم وحاضنتهم الشعبية.
من خلال الإعلام الصادق الذي يخرج الى العالم العربي والى شعوب العالم، يخشى العدو تغيير الصورة التي حرص على ترويجها منذ إقامة مستوطنته، وتغيير الرواية الكاذبة التي اختلقها لتبرير استيطانه ووحشيته. فالإعلامي الفلسطيني مهدّد في كل لحظة، بسبب دوره في فضح الصهاينة عربيا وعالميا. وبعد إقفال مكاتب "الجزيرة" و"الميادين" خلال هذه الحرب، وقبلها الكثير من المكاتب الإعلامية، وبعد منع وجود إعلاميين غربيين وأجانب في قطاع غزة، اعتقد العدو أنه سيطر على الصورة والخبر وأن روايته المزيّفة للحقيقة قد انتصرت بسبب الحكومات الغربية المنخرطة في حرب الإبادة وإعلامها من جهة، والحكومات العربية المطبّعة وبعض إعلامها التابع للولايات المتحدة والمتصهين حتى النخاع من جهة أخرى.
لكن، لماذا تخاف الدول الغربية من الحقيقة الناصعة حول فلسطين وتاريخ المنطقة ؟
ما هي مصلحة الأنظمة الحاكمة في الغرب من الترويج للأكاذيب الصهيونية وقمع
الأصوات الحرة وتجهيل الشعوب وتسخيفها ؟
لماذا تمنع الأنظمة الغربية من استخدام مصطلح "إبادة" عند الحديث عن الحرب الوحشية على قطاع غزة ؟
لماذا يتحدث الإعلام الغربي المتصهين عن "الرهائن الإسرائيليين" بيد المقاومة، وهم بعض المجندين والضباط والمستوطنين، في حين يسكت عن الآلاف من المختطفين من غزة والضفة الغربية في سجون العدو، الذين يقتلون كل يوم بسبب الهمجية الصهيونية؟
شنّت الدول الغربية حربها ضد الإعلاميين الغربيين، من أصل غربي أو عربي، منذ بداية حرب الإبادة. رغم أن قمع حرية التعبير ليس جديدا في الدول الغربية، فكان القمع متفاوتا حسب الدولة أو المسألة.
لقد شنّت الدولة الفرنسية على سبيل المثال حربا على الهوية الإسلامية منذ عقود، لأنها تريد ادماج المسلمين في هوية فرنسية "مبسترة" باسم المواطنة. وقمعت أغلب الدول الأوروبية التعاطف مع روسيا وثقافتها وحضارتها بعد الأزمة الأوكرانية، وتم اعتقال صاحب ويكيليكس لسنوات في السجون البريطانية. وقبل ذلك، تم قمع التعاطف مع حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران، ما يعني أن قمع حرية التعبير في الدول الغربية التي تناشد بحرية المعتقد والتعبير عادة سارية في معظم هذه الدول.
لكن في الآونة الأخيرة، خلال حرب الإبادة المستمرة، اشتدّ القمع ليطال صحفيين غربيين أبدوا تفهمهم للقضية الفلسطينية، أو أبدوا تأييدهم للمقاومة الفلسطينية التي تدافع عن شعبها وأرضها ومقدساتها. في بريطانيا مثلا، في الأسبوع الأخير، تم توقيف الصحفية ساره وكلسون في بيتها فجرا، وتم اقتيادها الى مركز الشرطة مكبّلة، بسبب "دعم الإرهاب"، وتم توقيف الصحفي ريتشارد مدهورست عند خروجه من الطائرة في مطار هيثرو البريطاني وتكبيله واتهامه ب"دعم الإرهاب" واحتجازه في مقر الشرطة الخاصة بمكافحة ما يسمى الإرهاب في هذه الدول. مع تكرار استخدام اتهام "دعم الإرهاب" ضد مناصري المقاومة الفلسطينية في الدول الغربية، سيفقد هذا الاتهام من وظيفته الترهيبية.
وفي فرنسا، اعتقلت الشرطة مدير شركة "تلغرام"، بافيل دوروف، لأنه لا يقمع الصوت الحر كليا على منصة "تلغرام"، وتم حجب قنوات من هذه المنصة، التي تصدر باللغات الأجنبية عن الجمهور الأوروبي، كقناة خاصة بأخبار المقاومة الفلسطينية والعربية ضد الصهاينة. وفي ألمانيا، منعت الحكومة الدكتور غسان أبو ستة من الحديث عن الوضع الصحي في قطاع غزة، واتهمته بدعم المقاومة، وكان قد صرّح مؤخرا أن الأوروبيين والغربيين إجمالا يحاولون النيل من عمله وشخصيته بالترويج للأكاذيب.
لم تكتف الحكومات الغربية بقمع الأصوات المنادية بوقف حرب الإبادة أو الداعمة للمقاومة الفلسطينية اليوم، بل حجبت عن الرأي العام الأوروبي كل ما يتعلق بتاريخ فلسطين ومقاومة شعبه. فمنعت فرنسا كتاب المؤرخ اليهودي إيلان بابي حول "التطهير العرقي في فلسطين" واستجوبته الشرطة الأميركية عند دخوله الولايات المتحدة قبل أشهر، واتهمته بدعم المقاومة الفلسطينية. وهناك العشرات من القصص، التي تدل أحيانا على سخافة المهيمنين على الحياة السياسية والثقافية في الدول الغربية، حول قمع الصوت الفلسطيني والعربي المدافع عن الحقيقة الفلسطينية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تاريخيا أم في الوقت الحاضر.
رفضت الأنظمة الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة وملحقاتهما وصف الحرب الوحشية الصهيونية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ب"الإبادة"، رغم كل الأدلة التي قدمها فريق إفريقيا الجنوبية الى المحكمة الدولية. بالنسبة لهذة الأنظمة، الإبادة الجماعية هي فقط ما اقترفه النظام الغربي النازي إزاء اليهود الأوروبيين، أو ما يسمى "الهولوكوست" او المحرقة.
وخلال خمسة عقود أو أكثر، سعت الدول الغربية والمنظمات الدولية التابعة لها، لجعل "إبادة اليهود" المعيار والاستثناء في العالم فيما يخص الإبادات الجماعية، وتجريم كل من ينكرها، من شخصيات أو مؤسسات. لم يتم تجريم من ينكر الإبادات الجماعية في أميركا وأستراليا وإفريقيا التي ارتكبتها الدول الأوروبية، فذلك يقع في خانة وجهات النظر وحرية الرأي، ولم تعترف الدول الغربية بالمجازر التي ارتكبتها في المناطق التي استعمرتها ولا تريد، الى يومنا هذا، الاعتذار عنها (فرنسا مثلا)، بل تصر على أنها أدّت "مهمة حضارية" في البلدان المستعمرة، لأنها شقت بعض الطرق ومحت ثقافة الشعوب ونهبت خيرات البلاد بمساعدة نخبة تعلّمت في مدارسها منطق الاستعمار وأساليبه.
الاعتراف بأن اليهود الصهاينة يرتكبون اليوم حرب إبادة جماعية مستمرة وحرب تطهير عرقي يعني بالنسبة لهذه الأنظمة التي أسست الكيان الصهيوني على أرض فلسطين أن مشروعها الاستعماري قد فشل، كما فشلت العديد من المشاريع الاستعمارية في العالم. فرفض مصطلح "الإبادة" لغير اليهود الأوروبيين يمثل أحد الحصون الدفاعية الأخيرة لمنطق الاستعمار والتضليل الذي بناه النظام العالمي الغربي لحماية روايته الكاذبة حول "إسرائيل" وحقوق الانسان والديمقراطية.
من هذا المنطلق أيضا ترفض الأنظمة الغربية الحقيقة التاريخية عن فلسطين وتقمع الأصوات التي تطالب ب"فلسطين حرة من النهر الى البحر" التي تعني فعلا زوال الكيان الاستيطاني اليهودي، صنيع الغرب الاستعماري. تسعى هذه الأنظمة الى تجهيل شعوبها ومنعها من الوصول الى الحقيقة من خلال الإعلام المهيمن والثقافة النخبوية والشعبية والمناهج التعليمية التي تبنّت الرواية الكاذبة الصهيونية حول تاريخ فلسطين. لقد أعادت المقاومة الفلسطينية طرح القضية الفلسطينية منذ "العبور" يوم 7 أكتوبر 2023، على المستوى العالمي، وحثت الأجيال الجديدة، التي لم تكن تعرف أي شيء عن القضية الفلسطينية قبل ذلك، الى التعرّف على المأساة والمقاومة، ما يهدّد سيطرة الرواية الصهيونية الغربية على هذه الأجيال، ويجعلها ترفض وتنتفض ضد حكوماتها المشاركة في النكبة منذ البداية. من أجل استمرار الكذب والتضليل ومنح الصهاينة في فلسطين المحتلة مزيدا من الوقت لاستكمال مشروعهم الإلغائي لشعب فلسطين، تقمع الأنظمة الغربية الحقيقة الفلسطينية.
لماذا تخيف الحقيقة النظام الرسمي العربي ؟
رغم تفاوت مواقف الأنظمة العربية من حرب الإبادة المستمرة والتطهير العرقي، تؤكد الحقيقة التي ينقلها الإعلاميون الصادقون على تورطهم اليوم في الإبادة، أو على أنهم عاجزون بسبب تبعيتهم للدول الغربية الإستعمارية وفقدان سيادتهم على دولهم. فالحقيقة التي يبثها الإعلاميون الشرفاء تفضح الإعلام الذي يشارك في حرب الإبادة والمجازر، بأكاذيبه حول المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، كما ظهر في وسائل إعلام تابعة لدولة الإمارات، التي تبث الأكاذيب الصهيونية.
حاولت بعض الوسائل الإعلامية العربية المناهضة للمقاومة التقليل من أهمية الوضع في فلسطين لصرف نظر الجمهور العربي عن متابعة الوضع وفهمه، لأن الفهم والوعي بالقضية الفلسطينية وموقعها داخل الأمة يفضح الذين يتماهون مع الاستعمار الغربي ويشاركون من خلال صمتهم، بالإبادة ومحو فلسطين وشعب فلسطين.
بفضل المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني، عادت القضية الفلسطينية الى الواجهة الإعلامية، رغم الجهود التي تبذلها الأنظمة المتواطئة مع العدوان الصهيوني المستمر، وعادت السردية الفلسطينية بقوة على المنصات الإعلامية، ليس فقط حول الحرب الوحشية الحالية، بل حول تاريخ فلسطين والمنطقة. لقد حاولت الأنظمة العربية المختلفة، منذ عقود، تغييب القضية الفلسطينية، عن المناهج التعليمية في مدارسها، كما فرضته المؤسسات الدولية التابعة للغرب الاستعماري. فكان العنوان لهذا التغييب "التحديث ومواكبة العصر". فنشأ جيل جاهل بالقضية الفلسطينية، غير أن استمرار حرب الإبادة ومواصلة المقاومة عملياتها ضد الصهاينة ومواكبة الإعلام الصادق لكل ذلك فتح عيون الأجيال العربية الشابة وحثّها على البحث عن الحقيقة للمساهمة في تغيير الواقع المأساوي الذي صنعه الغرب الاستعماري في بلادنا. فوجدت أن أغلب الأنظمة العربية مشاركة في سرقة فلسطين من أهلها ومتواطئة مع العدوان الصهيوني-الغربي، وأن الشعوب العربية مسؤولة كذلك لأنها تخلت عن واجب الدفاع عن فلسطين والأمة ولم تطالب من حكامها الوقوف ضد أعداء الأمة.
ما يعني أنه رغم سياسة التعتيم والتجهيل الذي سعى اليها النظام الرسمي العربي، فالوعي المتزايد حول هذه القضايا قد يثمر بعد حين، وكل ذلك من بركات المقاومة في فلسطين ودماء الشهداء.