راغدة عسيران
يطالب من اعتبر نفسه "المجتمع الدولي"، أي الولايات المتحدة والدول والمنظمات الدولية التابعة لها، الإفراج عن "المختطفين" أو "الرهائن" الصهاينة الملطخة أيديهم بالدم الفلسطيني، الذين انتشلتهم المقاومة الفلسطينية من ثكناتهم ومستوطناتهم العسكرية، في يوم 7 أكتوبر 2023 المجيد، لاستبدالهم بالأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في سجون العدو، العشرات منهم منذ ثلاثة عقود من الزمن.
لم يذكر أي كان ممن ينتمي الى هذا "المجتمع الدولي" الآلاف من المختطفين الفلسطينيين، الذين اختطفهم الجنود الصهاينة في الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل وبعد السابع من أكتوبر وحرب الإبادة الجماعية بحق أهل غزة، رغم أن اختطاف الفلسطينيين من بيوتهم وعلى الحواجز والطرق ومن المستشفيات وأماكن العمل، جريمة يمارسها جيش العدو منذ احتلاله قطاع غزة والضفة الغربية، ومنذ سيطرة العصابات الصهيونية في العام 1948 على الأرض الفلسطينية التي سمتها "إسرائيل". يسميها البعض، وفقا لقوانين استعمارية وسلطوية، "الاعتقال الإداري"، باعتبار أن الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني يشكّل دولة، وأن القوانين والأوامر الإدارية التي يعلنها قادتها، شرعية، في حين أن الكيان بحد ذاته غير شرعي، تمت إقامته بالمجازر وتهجير سكان البلاد الأصليين.
لكن المختطفون الفلسطينيون اليوم هم فئة أوسع من الذين يصنّفون "معتقلين إداريين"، هم الآلاف من المدنيين في قطاع غزة الذين تم اختطافهم، فقط لأنهم فلسطينيين، رجالا ونساء، أطفالا وكبار السن، المرضى وذوي الاعاقات، أطباء وصحفيين وموظفين، خلال غارات عسكرية على الأحياء والمستشفيات في المدن والمخيمات المختلفة. واعتبر جيش العدو أن كل الشعب الفلسطيني، بفئاته كافة، هو "حماس" يستحق الموت والتغييب والإذلال والتعذيب.
فمارس جنوده وضباطه وأطباءه ومحققوه كل ما يخطر على بال مجتمع استعماري متوحّش، من أصناف التعذيب والتنكيل والتجويع والإذلال. لقد استشهد مؤخرا (15/8) المواطن المختطف وفا عبد الهادي من خان يونس، في معسكر سيده تيمان، وكان قد تعرض للضرب على الرأس والتعذيب بالكهرباء مرات عديدة.
لم يعتبر المستعمرون الصهاينة كل المختطفين الفلسطينيين في قطاع غزة رهائن، بل أعداء يمكن قتلهم بالمئات، من خلال دفنهم أحياء (قرب المستشفيات خاصة) وتركهم ينزفون حتى الموت أو ترك كلابهم ينهشون أجسامهم، في معسكراتهم أو خارجها. هؤلاء المختطفون الفلسطينيون هم الذين يتم تعذيبهم حتى الموت من أجل الحصول على معلومة حول الأنفاق والمقاومة. فيتم الإفراج عن العشرات منهم بين الحين والآخر، بعد شهور من العذاب والجوع، إن بقوا على قيد الحياة، وقد أدلى العديد منهم، بشهادات مروّعة، حول الممارسات الوحشية في معسكر سيده تيمان وغيره من المعسكرات الخاصة بفلسطينيي القطاع، وحول تحقيقات رجال الشاباك معهم، واتهامهم بأنهم شاركوا في يوم 7 أكتوبر (شهادات المختطفين من غزة في برنامج "أسير حرب" على قناة "القدس اليوم" على سبيل المثال).
وإن لم يفرج عنهم، يتم تصنيفهم من قبل الصهاينة ب"المقاتلين غير الشرعيين"، أي أنهم يشكلون "تهديدا" على كيان العدو، رغم عدم وجود أدلّة بأنهم "مقاتلين"، بل فقط شبهات، على خلاف الجنود والضباط الذين انتشلتهم المقاومة من معسكراتهم في غلاف غزة، الملطخة أيديهم بالدماء الفلسطينية. فالأسرى المصنّفون "معتقلين إداريين" في الضفة الغربية و"مقاتلين غير شرعيين" في قطاع غزة، يعدون بالآلاف، إضافة الى الذين كانوا يقبعون في السجون الصهيونية قبل بداية حرب الإبادة تحت مسمى "الاعتقال الإداري". لا يمكن معرفة بالتحديد عدد المختطفين من غزة، بسبب تغييبهم ومنع المؤسسات الحقوقية من زيارتهم، في حين أحصى نادي الأسير 3432 مختطفا في الضفة الغربية منذ بداية حرب الإبادة.
يرتكب جنود وضباط العدو ومرتزقته الجرائم تلو الجرائم بحق المختطفين في الضفة الغربية، وإن كانت أقل حدة، بسبب زيارات بعض المؤسسات الحقوقية الى بعض السجون، رغم رفض بعضهم الحديث مع المحامين، بعد تهديدهم من قبل الصهاينة بقتلهم أو تعذيبهم، كما ورد في تقارير نادي الأسير. لكن هذه الزيارات القليلة خففت نوعا ما من إجرام الصهاينة وشهوتهم للانتقام، إلا أنهما لم يختفيا كليا، كما وثٌقه أسير محرّر حول كيفية اغتيال الشيخ الشهيد مصطفى أبو عرة في سجن ريمون.
يقول الأسير: "اقتحمت قوة القمع في السجون الغرفة التي كنت متواجدا فيها مع الشيخ و12 أسيرا. اقتحم 20 جنديا الغرفة مدججين بالسلاح والعتاد، واعتدوا علينا جميعا، لكن سرعان ما تركونا وركزّوا على الشيخ.. أحاط بالشيخ مصطفى ما لا يقل عن عشرة جنود وانهالوا عليه بالضرب والركل المتواصل على كافة أنحاء جسمه. بالكاد استطاع ان يحمي رأسه.. كان يصرخ من شدة الألم. ورغم صرخاته، كانوا يزيدون من عدوانهم كلما استنجد بالله...
وفي لحظة، حمله أحدهم ورفعه للأعلى ثم رماه بكل قوته على الأرض ليهجم عليه الآخرون بالركل وهم يلبسون البساطير، على وجهه ورأسه وصدره. وحشية لا مثيل لها، كانوا يضربون بكل حقد بهدف القتل.. لا يمكن ان ينجو الشيخ من هكذا هجوم... لم يتمكن أحد من ألأسرى ان يتفوه بكلمة واحدة .. وأي حركة تصدر من أي أسير تعني أنه سيلقي مصيرا مشابها...
بعد خمس ساعات على الاعتداء، تحامل الشيخ على نفسه وحاول الوقوف للوضوء ولكنه فجأة صرخ صرخة تشي بألم كبير.. لما رفعت عنه ملابسه لأفحص إن كان هناك أي جرح، صعقت مما رأيت. فقد كان جسده أزرقا وهناك تجمعات دموية في أكثر من مكان، وكاد يفقد الوعي من جديد.
وهنا استجمعنا قوانا وحاولنا الحديث مع أحد السجانين رغم ان هذا يعد ضربا من الجنون.. وبعد أخذ ورد استمر لساعات رفضوا نقله للمشفى . بقي الشيخ مع جراحه 13 يوما ترفض إدارة السجن نقله للعيادة أو للمشفى حتى وصل لمرحلة صعبة جدا وقرر الأسرى الاحتجاج رغم مخاطر القمع وفي النهاية وافقوا على نقله للمستشفى ... وطيلة الأيام التالية، انقطعت أخبار الشيخ أبو عرة تماما حتى وصل الخبر فجر الجمعة باستشهاده."
هل تغيّر سلوك الصهاينة بسبب "طوفان الأقصى" أم أن وحشيتهم متجذرة في سلوكهم العنصري ؟
في العودة الى الوراء، الى العام 2012 تحديدا، ومن خلال رسالة كتبها الشهيد الشيخ أبو عرة، من السجن، يتبيّن أن السلوك الوحشي لم يغادر الصهاينة منذ غزوهم لفلسطين. في هذه الرسالة، يصف الشيخ معاملة الصهاينة في المستشفى الذي نقل اليه من سجن مجدو.
يكتب الشيخ: "بعد خريف عقيم من المعاملة الإنسانية من إدارة سادية نازية في سجن مجدو أقبل شهر كانون بقله وبره ، ولا كانون عندنا ولا نار، نتقي البرد بما نحمي به أجسادنا بملابس لا تدخل إلينا من الأهل إلا بعد معاناة وصراع مع إدارة السجن على ما هو مسموح وما هو ممنوع ، تبدأ رحلة معاناة جديدة بظهور آلام في الصدر تتصاعد يوما بعد يوم ، حتى بلغت وكأنما صخرة تجثم على صدري... " بعد إيام ومعاينة الطبيب له مرتين، اكتشف الطبيب أن هناك مشكلة في القلب. " وتم نقلي سريعا على مستشفى العفولة مكبل اليدين والرجلين مثقلا بالسلاسل الحديدية ، وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية ، فربطت السلاسل بالسرير الذي أرقد عليه... يحوطني ثلاثة من الشرطة لحراستي مسلحين بالمسدسات والعصي الكهربائية وعبوات الغاز المغمي، يعدون عليّ أنفاسي ويرقبون كل تحركاتي.
وفي اليوم التالي لدخولي المستشفى يتغير شفت الحراسة ويشددون القيد أكثر ، وعند الغداء رفضوا فك وثاقي لتناول الطعام ولم أستطع الجلوس على السرير بحرية بسبب قصر القيد في رجلي فرفضت تناول الطعام وأرجعت وجبة الغداء.. عند المغرب كرروا نفس السيناريو على الطعام والصلاة فأرجعت وجبة العشاء ونمت مع جوعي وآلامي ، وصحت في وجوههم وقلت لهم: انتم لستم بشرا وليس عندكم شيء من الإنسانية وعنصريون، وطلبت العودة للسجن لأنه أقل معاناة من سرير المشفى... وافضل الموت في السجن على ذل المعاملة في المستشفى..
ثم نقلت إلى غرفة عناية خاصة بعد العملية في ظل حراسة مشددة ، ويقود طاقم الحراسة جمّال (شاويش) عنصري فظّ مجرم لا رحمة بقلبه مهووس بما يدعوه بالأمن، فكانت قمة المعاناة معه حيث اشتغل بعد منتصف الليل بفحص القيود في يدي ورجلي مرات ومرات. ويحل القيد المربوط في وسط السرير ليربطه بأسفل السرير ، فلا أستطيع التحرك..، فأخذت أصرخ به: أنت مجنون عنصري مجرم مهووس..."
توقيع: السجين مصطفى محمد أبو عره / أبو عبادة / 51 سنة / عقابا- جنين / 6 اعتقالات في سجون الاحتلال قضيت أكثر من 5 أعوام خلالها في ظلمة الأسر ، وما زلت في الاعتقال الإداري 22-2—2012.
بعد أكثر من عشر سنوات على هذه الرسالة، صعّد العدو اختطاف الفلسطينيين بنيّة إذلالهم، كما وضّحت ذلك شهادات الناجين من جحيم المعسكرات النازية. فيلجأ العدو من وقت لآخر الى محاكم عسكرية صورية لإصدار أحكام بالاعتقال الإداري أو تمديده، معتبرا أنه يشرعن بهذه الطريقة جرائمه أمام العالم. هو يريد منها فقط حماية نفسه وتبرئة متوحشيه أمام "المجتمع الدولي" المصاب بالعمى. فتدخل مسرحية نظر المحكمة الصهيونية بقضية اغتصاب مختطف فلسطيني من قبل الجنود المتوحشين في هذا الإطار، ومن أجل طمس الجرائم كافة التي يرتكبها الصهاينة بتسليط الضوء على جريمة وحشية واحدة وكأنها الاستثناء. كما تدخل في هذا الإطار شهادات متأخرة جدا لأطباء صهاينة حول المعسكرات الصهيونية. فهم يتخيّلون أن هذه الشهادات والمحاكم الصورية قد تحميهم من غضب الشعوب.