/مقالات/ عرض الخبر

الجزائر وفلسطين: التشابه والاختلاف

2024/07/19 الساعة 01:18 م

راغدة عسيران

منذ بداية معركة "طوفان الأقصى"، تردّد الحديث عن الجزائر وحرب التحرير التي خاضها الشعب الجزائري ومقاومته ضد الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، باعتبار أن معركة "طوفان الأقصى" شبيهة ببعض الشيء بحرب التحرير الجزائرية، بشقيها، المعركة التحررية من جهة والمجازر والإبادة الجماعية من جهة أخرى. فصدرت المقالات والدراسات والمحاضرات حول الموضوع، تتناول تاريخ المقاومة الجزائرية والمقاومة الفلسطينية ومحطاتهما، وتقارن بين المشروعين الاستعماريين (فرنسا والكيان الصهيوني) والظروف السياسية العربية والدولية التي أحاطت سابقا وتحيط اليوم بكلاهما. 

لكن لم تكن المقارنة بين فلسطين والجزائر جديدة، حيث تم بحثها من جوانب عدة في الماضي، قبل أن يتراجع الاهتمام بها تزامنا مع مشاريع التسوية واتفاقيات أوسلو، وما تبعها من البحث عن نماذج أخرى، منها نموذج إفريقيا الجنوبية، الدولة الاستعمارية الاستيطانية التي مارست الفصل العنصري بين السكان الأصليين (أغلبية السكان) وبين المستوطنين الأوروبيين (الأقلية الحاكمة) وسيطرت على دول إفريقية أخرى (ناميبيا وزمبابوي)، وحيث تمت التسوية بين الأكثرية الإفريقية والأقلية الاستعمارية على أساس المواطنة، بعد معارك دامية خاضها شعب جنوب إفريقيا ضد الاستعمار.

فكانت التسوية التاريخية في جنوب إفريقيا إعلانا بانتصار الشعب الإفريقي الذي استلم السلطة، بحكم الأكثرية العددية، في الوقت الذي كانت تطرح فيه التسوية بين الشعب الفلسطيني (بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية) والكيان الصهيوني. في هذه الأجواء "المتفائلة"، تم استبعاد النموذج الجزائري والتبرير لهذا الاستبعاد، بغياب "الوطن الأم" للمستوطنين اليهود، في حين كانت فرنسا الوطن الأم للمستوطنين الفرنسيين والأوروبيين الذين رحلوا عن الجزائر.

عاد الاهتمام بالجزائر وفلسطين بعد انسداد وفشل مشروع التسوية بين الكيان الاستيطاني الصهيوني والشعب الفلسطيني، تحت المظلة الدولية وخاصة الأميركية، التي دعمت وما زالت تقدم للكيان الإرهابي كل أنواع الدعم (السلاح والمال والسياسة). فطُرحت مجددا مسالة الاستعمار الاستيطاني في العالم، ومنها النموذج الجزائري، لا سيما وأن الشعب الجزائري خاض حرب التحرير تحت راية الإسلام التي جمعت بين مكوّناته كافة. فكانت الندوة التي أقيمت في باريس في أيار 2023 تحت عنوان: "الجزائر وفلسطين: المسارات المتشابكة" ودراسة د. اباهر السقا عن النموذج الجزائري (قراءة مقارنة بين الحالتين الاستعماريتين في فلسطين والجزائر) النماذج الأخيرة لهذا الاهتمام قبل معركة "طوفان الأقصى".

بعد 7 أكتوبر 2023، والعبور الى الأرض المحتلة، تناول عدة باحثين عرب (من المغرب العربي خاصة) أهمية العبور والمعركة التي تلته ضد العدوان الصهيوني على قطاع غزة في سياق التحرير، بالمقارنة مع حرب التحرير الجزائرية ومحطاتها، من ثورة الأمير عبد القادر الى التحرير ورحيل المستوطنين الأوروبيين عن الجزائر.

في عدة مقابلات ومحاضرات خلال معركة "طوفان الأقصى" وضّح د. محمد المختار الشنقيطي (موريتانيا) أوجه الشبه بين الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، معتبرا أن الثورة الجزائرية تمثّل نموذجا للشعب الفلسطيني الثائر، لا سيما وأن الجزائر وفلسطين وحدهما من بين شعوب الأمة، اللتان واجهتا الاستعمار الاستيطاني، والذي يعتبر أشرس من الأستعمار "العادي"، لأنه يخطط لتشريد وفناء الشعب الأصلاني، ولأنه يعتبر أن الأرض أرضه، ما يتطلب همّة أكبر وتضحيات جسام لإزالته، لأن "اقتلاع الاستعمار الاستيطاني ليس سهلا".

وما يميّز الاستعمار الاستيطاني في فلسطين والجزائر عن سائر المناطق التي استهدفت في العالم، هو ما أسماه "طبيعة الشعوب"، حيث اعتقد الاستعمار (الفرنسي والصهيوني) أنه احتلّ أرضا خالية من الحضارة، لكن لم يكن هناك "فراغ حضاري" في الحالتين، بل كان هناك صراع طويل مع الغرب، ولدى شعوبنا "ذاكرة حضارية" قوية.

يقارن د. الشنقيطي ثورة الأمير عند القادر بثورة عز الدين القسام في فلسطين، حيث كان يدرك المجاهدان أن حركتهما الثورية لن تنتصر على الاستعمار في ذلك الوقت، إلا أنهما فجّرا الثورة لفتح الطريق نحو المستقبل، وغرس بذرة التحرير.

من جهته، سرد الكاتب الجزائري عبد الله بن عمارة (الأخبار، 22/11/23) كيف نشأت مقاومة الشعب الجزائري للاحتلال الاستعماري الفرنسي ومحطاتها، والمجازر المروّعة التي ارتكبها المستعمرون (الجيش والمستوطنون من جنسيات أوروبية مختلفة) انتقاما من المقاومة، لردعها وقتل روح المقاومة لدى الشعب. وقارن الكاتب هجمات 20 آب/أغسطس 1955 التي نفذها مقاتلو جيش التحرير الوطني، بتخطيط القائد الشهيد زيغود يوسف، التي تركزت على "مراكز الشرطة والدرك ونقاط للجيش ومقرات إدارية ومحاكم وسجون في مدن وقرى يسكنها المستوطنون في منطقة الشمال القسنطيني" ب"العبور" الى المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، يوم 7 أكتوبر 2023، من ناحية التخطيط الفذ وجرأة المقاومين، والأوضاع السياسية التي سبقت "العبورين" حيث كان "لا بد من عملية واسعة تكسر هيبة الجيش.. وتعيد الثقة للشعب بالثورة"، ووحشية الإبادة الجماعية التي تلتها.

بالنسبة للكاتب، فإن "هذه الهجمات كانت فعليا خطوة جريئة نحو التحرير" بسبب انخراط الشباب في الثورة و"نسف أسس نظام كولونيالي عنيف عبر فعل مقاوم تراكمي". وقد تكون معركة "طوفان الأقصى" خطوة مماثلة في اتجاه التحرير.

بالنسبة الى الاختلاف بين الثورتين، إضافة الى التضاريس والأرض والمساحة بين الجزائر وفلسطين، يذكر د. الشنقيطي أن الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر فرض لغته وثقافته وحارب الهوية الجزائرية بكل محتوياتها، الدينية والتاريخية والثقافية، خلافا للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي، وإن حارب الهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية، لم يفرض ثقافته على الشعب المستعمَر. فكانت بالتالي التحديات أشمل وأقوى في الجزائر من أجل استعادة الهوية الأصيلة، ما أثّر على طبيعة الثورة.

وتوقّف الباحث عند اختلاف البيئة الاستراتيجية العالمية والإقليمية بين الثورتين الجزائرية والفلسطينية، نظرا لما يعيشه اليوم الشعب الفلسطيني، من تطبيع بعض الأنظمة العربية مع كيان العدو، وتماهيها مع المشروع الصهيوني والهيمنة الأميركية والغربية عموما على المنطقة، التي أفضت الى شلّ وعجز معظم الأنظمة العربية أمام الإبادة الجماعية "الإسرائيلية" في فلسطين. بالمقابل، استفادت الثورة الجزائرية من البيئة الدولية والإقليمية لشنّ ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، فكانت معركتها الديبلوماسية موازية لمعركتها العسكرية والسياسية.

بالنسبة له، ورغم اعتبار "طوفان الأقصى" معركة مفصلية حققت وتحقق مكاسب كبيرة للشعب الفلسطيني، لم ترتق بعد الى المعركة الشاملة، طالما لم تدخل المناطق الفلسطينية الأخرى (الضفة الغربية، الداخل المحتل عام 1948 والشتات) في المعركة، كما دخلت المناطق الجزائرية الخمس في المعركة النهائية. رغم أهميتها، يمكن اعتبار المرحلة مرحلة الثورات "المحدودة" التي سبقت الثورة الشاملة.

لم يتطرق الباحثون الى السلطة الفلسطينية التي يمكن اعتبارها امتدادا فلسطينيا للبيئة الاستراتيجية الدولية والإقليمية، ودورها في منع انتشار الثورة الفلسطينية، على الأقل في الضفة الغربية، الساحة الأهم اليوم كونها ساحة صراع دموي بين الشعب الفلسطيني ومقاومته وبين العدو الصهيوني. لقد إقيمت هذه السلطة (التي تعتبر نفسها دولة) على أساس منع المقاومة وبث وهم التحرير والاستقلال، وتم اعتراف بها عربيا ودوليا كممثلة للشعب الفلسطيني. لم تشهد الثورة الجزائرية ما يشبه السلطة الفلسطينية ودورها في إحباط الثورة وتجزئة الأرض والشعب، إلا في بداياتها، ولكن لم يعترف بالأحزاب المتماهية مع الاستعمار إلا الإستعمار نفسه. يدلّ هذا الوضع على موقع فلسطين الاستراتيجي في الصراع العالمي بين الحرية والظلم، بين الكرامة والإذلال والاستعباد، بين الحق والباطل، كما يدل على شراسة الغرب الاستعماري المتشبث بكيانه الصهيوني. 

اتفق الباحثون في المقارنة بين فلسطين والجزائر على حتمية انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته، على العدو الصهيوني، وحتمية رحيل المستوطنين وعودة فلسطين الى حضن الأمة، لكنهم اختلفوا جزئيا على تشابه المراحل: هل معركة "طوفان الأقصى" تمثل بداية حرب التحرير، كما تحدث الشيخ يحي صاري عضو في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيس المبادرة الجزائرية لنصرة فلسطين وإغاثة غزة، أو أنها نقطة تحوّل مفصلية في سياق حرب التحرير، أم مرحلة "الثورات المحدودة" في بيئة استراتيجية معادية، قد تتغيّر إقليميا بفضل استمراريتها ووجود جبهة إسناد عسكرية (لبنان، اليمن، العراق) وسياسية (إيران وسوريا)، وقد تتغير عالميا بفضل تراجع الدول الغربية وضعفها منذ بضع سنوات؟ قد يكون مصير السلطة الفلسطينية مرتبطا بهذه التغييرات القادمة.

 

 

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/207014

اقرأ أيضا