قائمة الموقع

حوار الفنان ميسرة بارود: لوحات "ما زلت حياً" توثيق ورسالة لمعاناة النزوح والموت في غزة

2024-07-09T10:28:00+03:00
وكالة القدس للأنباء - ملاك الأموي

ميسرة بارود.. فنان فلسطيني من مواليد (1976) لاجئ إلى غزة، تعود أصوله إلى قرية بيت دراس، وبعد نزوحه ما يقارب الـ 13 مرة، يقيم الآن في دير البلح، حيث  كان يعيش قبل ذلك في وسط المدينة، في بيت دافئ مليء بالذكريات، لكن لم يعد لهذا الدفء وجود، بعد حرب الإبادة التي تعرَّض لها القطاع، حيث نزح أكثر من مرة بحثاً عن مكان آمن، بعد أن تم قصف منزله، ورغم كل هذا الألم.. ما زال ميسرة حتى اليوم يرسم، ويوثق واقعه الذي يعيشه من قلب الدمار، من خلال نشر رسومات شبه يومية له، وجميعها تحت عنوان "ما زلت حياً"، هذه الجملة التي اعتاد على تكرارها قبل النشر، بتنويه منه أنه ما زال على قيد الحياة.

ما تبقى منا..

قال الفنان ميسرة بارود لـ"وكالة القدس للأنباء" التي حاورته: "مكثت في رفح أكثر من خمسة أشهر، متنقلاً بين ثلاثة أماكن بحثاً عن مكان آمن، بعد أن غادرت غزة متوجهاً جنوب وادي غزة، حسب تعليمات جيش الاحتلال "الإسرائيلي"، الذي أعلن مراراً بالتوجه إلى جنوب وادي غزة والإبتعاد عن مناطق القتال، حيث خدع الجميع وأمرهم بالذهاب  إلى الموت في أقصى الجنوب"، مؤكداً أنه "لم يكن صعباً على جيش العدو غزو أي من فضاءات غزة الضيقة، كل ما عليه أن يفعله هو أن يحدد تلك الفضاءات باللون الأحمر ويضعها على ورقة ليلقي بها في مهب الريح، لتصبح بعدها في مرمى القذائف والصواريخ وهدفاً للطائرات المحملة بالجحيم، ومرتعاً للدبابات التي تطلق حممها في كل مكان دون أن تحدد أهدافاً لسقوط اللهب".

وأضاف: "توجهت إلى وسط غزة وتحديداً إلى (دير البلح) بالقرب من (مطاحن القرارة) أو بمعنى أدق -عدت إليها- فقد مكثت في هذا المكان شهرين قبل انتهاء الهدنة، وقبل الذهاب إلى أقصى الجنوب، لقد مكثت في هذا المكان شهرين قبل ان تُخرجنا حمم الدبابات المنهمرة، وأصوات الطلقات المسعورة، لقد مكثت هنا حين كان المكان آمنا، وقبل أن نغادره مشياً وركضاً وتعثراً وهرباً وخوفاً ورعباً وحزناً وألماً، وكنا .. أشباه موتى. عدت بعد غياب قسري عن المكان، عدت، لأجد لا شيء على حاله، هنا كانت أشجار النخيل، وهنا كانت أشجار الزيتون وكرمة العنب والدفيئات الزراعية… وكنت أنا، هنا كان منزل وهنا كان آخر، وكان هنا شارع وكان مسجد، وكان جيران وأصدقاء .. وكنت أنا".

وأوضح أن "الدبابات حرثت الأرض، ونثرت بذور الحقد في تربتها الخصبة، لقد وصلنا بعد مشقة إلى المنزل الذي كان يأوينا قبل خمسة أشهر، لقد وصلنا ووجدنا ما تبقى منه، واليوم ما تبقى (ومن تبقى) منا يقيم في ما تبقى من المنزل الذي يقع في ما تبقى من الحي"، وأضاف ميسرة، "بحثت لنفسي في ما تبقى من غرفة عن مساحة جديدة للرسم، مساحة تتسع لأوراقي وأقلامي وبعض أفكاري، مساحة من غرفة بلا جدران، تطل على أفق واسع، أشاهد من خلالها على امتداد البصر ما تبقى من المدن التي تركتها خلفي .. تحترق".


وقال بارود، ل"وكالة القدس للأنباء": "كنت أعيش في مدينة غزة وسط أسرة صغيرة في بيت كبير للعائلة، استيقظ صباحاً وأتوجه إلى الجامعة (جامعة الأقصى) التي أعمل فيها كمحاضر في كلية الفنون الجميلة، أقضي ساعات النهار مع طلابي وزملائي في العمل، بعد أن ينتهي عملي أتوجه إلى المنزل، وفي ساعات المساء أقضي ساعات الليل في مرسمي بين كتبي وأوراقي وألواني ولوحاتي وتجاربي.. أعتقد أن هذا هو النظام الذي اتّبعته طوال سنوات إلى أن قررت طائرات العدو الصهيوني أن تنهي هذا كله، حيث أسقطت صواريخها على المنزل وسوته بالأرض".

فقدت كل ما أملك..

وأضاف: "منذ السابع من أكتوبر تغير الحال تماماً، لقد دمرت الطائرات مكتبي الخاص في ثاني أيام الحرب، حينما تم تسوية (برج الوطن) المكون من 12 طابقا بالأرض، وفي ثالث أيام الحرب قامت الطائرات بتدمير منزلي المكون من خمسة طوابق وفيه مرسمي، لقد فقدت كل شيء، لقد فقدت جزءاً كبيراً من أعمالي وأعمال مقتناة لفنانين أصدقاء في قصف (برج الوطن) في حي الرمال، وفقدت مرسمي الخاص، الذي احتفظت فيه بكل تجاربي وأرشيفي وأعمالي على مدار ثلاثين عاماً مضت… لقد فقدت أدواتي وعشرات اللوحات، وآلاف المخطوطات (السكتشات)، ومكتبة فنية تحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف كتاب، لقد فقدت عالمي الصغير الخاص، وجميع ذكرياتي ومقتنياتي، ولم أتمكن من إنقاذ أي شيء".

وتابع، "لقد تغيَّر كل شيء … تغيَّر وجه المدينة وشوارعها وتشوهت معالمها وأصبحت ركاماً، فقدنا الأصدقاء والأقارب، وأصبحت الأماكن التي نحبها مجرد صور في ذاكرة مشوهة، الغلاء والجوع والمرض والألم والحزن والفقد والتشرد هو السائد في هذا الفضاء الضيق، وإن كنت صاحب حظ، يمكنك أن تكسب فرصة أخرى للنجاة، من موت مؤجل".

توثيق أشكال المعاناة

وعن شغفه المستمر في الرسم حتى اللحظة، قال: "في البداية كانت الرسومات رسالة مني للأصدقاء والمتابعين الذين اعتادوا على يومياتي، التي كنت أنشرها طوال سنوات على مواقع التواصل الاجتماعي، رسالة تحمل في طياتها المشاهد اليومية للأحداث التي نمر بها، رسالة توثق أشكال المعاناة التي حلت بعد السابع من أكتوبر، أرسم حينما ينام الجميع، في المساحة المتبقية والمتاحة من الفضاء الضيق للمكان الذي أقيم فيه، وبما أني تعرضت للنزوح للمرة الثالثة عشرة خلال الحرب، فإن مكان الرسم يختلف باختلاف مكان الإقامة"، موضحاً أنه "منذ بداية مشواري الفني وأنا أرسم باللونين الأبيض والأسود ولا ثالث لهما، تجاربي وأعمالي الملونة تكاد تكون محدودة وخاصة، تجربتي مع الأبيض تتجاوز المعنى والفكرة المترسخة في معنى اللونين، فلا السواد كئيب ولا البياض بريء، وينحرف كل منهما عن حياديته المعروفة... الأبيض والأسود هما انعكاس الحياة في مشاهد القلق والتوازن، والتضاد والصراع، والانسجام والغموض، والدهشة والحب، والحرب والموت والحياة، ولكل منهم مساحته الخاصة في فضاء العمل الفني.


 

رسالة تحدي.. ما زلت حياً

وأكد بارود "أحاول من خلال الرسم أن أحقق معادلة للتوازن الداخلي في نفسي، فبعد يوم طويل وشاق أنا بحاجة للرسم، خاصة في ساعات الليل الموحشة والمظلمة والمحملة بالموت، أرسم كي أحافظ على الطقس الوحيد المتبقي من حياتي قبل السابع من أكتوبر، ولعلها محاولة للانتصار على آلة الحرب التي لم تستطع أن تنتزع مني هذا الشغف، مواصلة الرسم هي رسالة تتجاوز الحصار، وتتخطى الحواجز والحدود وتنتصر على آلة القتل"، مضيفاً: "لقد اعتدت منذ سنوات على نشر يومياتي التي أقوم برسمها ضمن مجموعات أو سلسلة تحمل إسماً وموضوعاً، واستطعت أن أحافظ على هذا الطقس رغم صعوبة الظروف.  أطلقت إسم "لازلت حياً" على المجموعة لعدة أسباب: أولها أنها رسالة لأصدقائي تطمئنهم بأني لازلت على قيد الحياة، من خلال النشر اليومي، وسبب آخر ربما هي رسالة تحدي لقاتلي الذي انتزع كل شيء، ولكنه لم ينتزع شغفي وما أحب، "لا زلت حياً" هي رسالة مني لي أواسي بها نفسي ومن أحب".

وفي نهاية حديثه، قال الفنان ميسرة بارود: "لازلت أرسم واقعي الذي أعيشه، وأعبِّر عنه، وأتمنى أن يتغير هذا الواقع، وبالتالي سيتغير ما أطرحه بما يناسب واقعي، لا أستطيع أن أحلم بواقع مخالف، وأنا أعيش وسط هذه المقتلة ووسط الموت الطازج والمستمر، ولكني أتوق إلى حياة هادئة يسود فيها السلام والعدل والأمان، والتي من المؤكد ستكون موضوعاً أرسمه لأنني أعيشه".

 

اخبار ذات صلة