في غزّة، رأسٌ مُهشّمٌ لطفلٍ يبحث في العتمة عن صدر أمّه الميّتة، فحليبُ العالم جافّ، وكسرة الخُبز دمٌ، والطّفلُ جائع. فتاةُ أبيها تُمسك بيده لئلّا يختفي فجأةً بقصفٍ "إسرائيليٍّ" مُباشر، قُبلةٌ أخيرة، مشهدٌ مُبهم، لا يراه الغزّاويّ بفعل قنابل الفوسفور، ولا نراه نحنُ لِكونه "مُحتوًى حسّاسًا"، خلٌّ على جرحِ غزّة، لا هذا ليسَ تعبيرًا مجازيًّا، فاللغةُ تعلّمت من فلسطينَ كيف يصيرُ المجازُ حقيقة، حينَ يصيرُ مسكّن الألم الحقيقيّ هو الألم بحدّ ذاته، يصرخ الجريح "ربّما بالموتِ أنجو".
في غزّة، عرف الإنسانُ قيمة اسمه، اسمٌ يُكتب عند الولادة لئلّا يضيع في زحام المشفى، واسمٌ عند الموت لئلّا يضيع في المقابر. حاملًا اسمه، يركض الشّهيدُ المؤجّل هناك، يقول "لن يلتقطني الموت"، ثمّ في ركضه يصيرُ يتيمًا، تقتلُ "إسرائيلُ" عائلته، لم يعرف أنّ الهرب ليس وسيلة نجاة، يخفّف من سُرعته فتقتُلُ "إسرائيلُ" صديقه برشقة صاروخيّة مُباشرة، يبحث عنه ليودّعه، لا أثر لوجهٍ ولا لعلامة، بل لقطعٍ متناثرة من جسدٍ واحد، يشغّل جناحَيهِ كي يطير، يقول "لن تلتقطني إسرائيل"، ويحمل معه قطعةَ خبز، فالتّحليق بأجنحةٍ "يتيمة".. مُتعب. تقصفهُ "إسرائيلُ" بغارةٍ جوّيّة، حتّى في طريقنا للسّماء طاردونا.
فإن حصل ودُستَ بقدمَيكَ الأرضَ في غزّةَ فاخجَل، فهي حُبلى بالثّأر، وإن ركلتَها على بطنها سيبدأ المخاض، وسيولد بعدها كلّ أطفال غزّة الّذين دُفنوا في مقابر جماعيّة، كلّ أحلامهم ستصير سلاحًا ببوصلةٍ ثابتة، فقد "توحّمت" فلسطينُ من قبلُ على الدّم، ولن يولد من الدّم إلّا نضال.
بالنّسبة لطفل عاديّ، كُتب عليك أن تولد بدون أن تُرفق بشهادة وفاة لأنّ قصفًا ما باغَتَ رحم أمّك فجأة، أن تتناول طعامك المفضّل بدون أن تحمل كسرة خبزٍ يتيمة بُصمت عليها دماؤك، وأن تُدرك كيف تتجلّى الطّفولة في اعتباطيّةِ القفزِ وتهشيم الزّجاج، بِرَكلةٍ من قدمك التي لم تخسرها إثر صاروخٍ استهدف ملعب مدرستك، حين أردت أن تقلّد "بطلًا خارقًا" أشقر الملامح. كُتب عليك أن تستميت في طلب ألعاب وأن تحصل عليها حالًا، فهذا ديدَنُ والدَيك، وأن تكون هواجسُكَ وحوشًا تأكل قدماكَ إن أخرجتها من تحت اللحاف، في غرفة صغيرة لا تسمع فيها صوت القصف ولا عواء المحتلّ. كُتب عليك أن توصف بكونك "بطلًا خارقًا" حين تخطو خطوتين بدون مساعدةٍ من والدَيك، وأن تعرف ملمس زبد البحر بدون عناء، أن تعرف طعم الوداع لجسد واحد، من دون أن تبصره أشلاءً متفحّمةً تشكّل خريطةً كبيرةً لم تعهَدها من قبلُ، هكذا تصيرُ البلادُ منقوشةً على أجساد أبنائها.
في العالم "المُوازي"، قرّرنا أن تكون البطولة الخارقة سيّدة الموقف، فكلّ من يسكن في غزّة بطلٌ خارق، واجبٌ عليه أن يتحمّل تهشيم أحلامه منتظرًا موته المُؤجّل كلّ مساء، وأن لا تنقل نشرات الأخبار اسمه، فقد تخالط فحم جسده مع دماء عشرة أطفال في مقبرة واحدة، على الأقلّ، سيتشاركون الطّفولة المؤجّلة، في السّماء. كُتب على أهل غزّة أن يفرحوا بسماءٍ بدون غُبار، وأن يخطّوا حُبًّا مؤجّل النّهاية، مُتسابقين "من سيستشهد أوّلًا؟"، أن يكون العُرسُ "زفّة شهيد"، وأن تكون مواعيدُ اللقاء "السّاعة: بدون قصف، المكان: حيثُ تجدُني حيّة"، والختام: "دمعةٌ لغزّة، وأخرى للحبيب".
البُطولة الخارقة يا عزيزي فعلٌ روحيّ، لا أن تطير فتدمّر المباني بطرفة عين، هذه تُسمّى "إبادة". البطولة الخارقة تعني أن تكون غزّاويًّا يعرف أبجديّة الحرب ولُغة القتال، ويحفظ من العربيّةِ السّلوانَ والتّماسُك، البطولة الخارقة تعني رسمَ جناحٍ خفيّ يمتدُّ من يد الأب إلى يد طفلته في وداعه الأخير، قبل سفره بلا عودة، على طريق القُدس، البُطولة يعني أن يمتدّ هذا الجناحُ ليخيط شهادةً بعطر الياسمين على طريق دمشق، ويستمرُّ صوفُ الجناحِ لِيُحيكَ حرفًا جديدًا يُضافُ على الثّماني وعشرين حرفًا في اللّغة، من فم يمنيٍّ خسئت دون "قافِه" العُروبة، على طريق صنعاء، والجناحُ يظلّ يحلّق بعيدًا، رِياحُهُ تستمدّ صَباها من المسكِ في جنوب لُبنان، ومن ريح القصائد في العراق.
للأيادي الّتي عرفت كيف تنقُلُ غزّة من العالم "الموازي" إلى عالمنا، إذ لم يصدّق كثيرون أنّ غزّة ليست "أفلام هوليوود"، لليد الّتي رُفعَت من تحت ركام الموت، ولليد التي بحثت عن شعر أمها الممزوج مع رائحة الفقد، ليد طفلة تُمسك بقطعة خُبز لتكون قوتها في هجرتها الأخيرة للسّماء، لليد التي عرفت كيف ترسم شارة نصرٍ بدون أصابع. لهؤلاء، أنتم أبطالنا الخارقون، وحين ندوس في غزّة، ونشتمّ ريح يافا، ونحطُّ من بحر صورَ في شاطئ عكّا، ستكونُ الأرض حُبلى مرّةً أخرى، بالنّصر الّذي لا يولدُ إلّا من رَحِمِ البنادق، حين تتوحّمُ فلسطينُ كعادتها مرّةً أخرى، على الدّم.