وكالة القدس للأنباء - متابعة
يدفع فلسطينيو الداخل (الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948) ثمناً مضاعفاً للحرب المستمرة على قطاع غزة منذ 110 أيام، إذ يواجهون عقاباً اقتصادياً وسياسياً من قبل حكومة الاحتلال، فضلا عن معاناتهم من انكماش أسواق العمل والبطالة وتراجع الدخل بفعل الأضرار التي لحقت بالاقتصاد "الإسرائيلي" عموماً.
وتحمل الحرب على غزة أثماناً باهظة للاقتصاد "الإسرائيلي". إذ تشير التقديرات "الإسرائيلية" إلى أن التكاليف المباشرة للحرب (التسليح والذخائر وتجنيد قوات الاحتياط) والتكاليف غير المباشرة (إخلاء السكان، إعادة تأهيل النقب الغربي، الأضرار التي لحقت بالإنتاج الكلي، تراجُع الاستهلاك) ستبلغ نحو 200 مليار شيكل (53.8 مليار دولار).
وفي الربع الأخير من عام 2023 فقط، طرأ انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 10%، ومن المتوقع أن يكون نمو الناتج المحلي في العام الحالي صفراً.
وبغية ضبط الأضرار الاقتصادية، رصدت الحكومة ميزانيات إضافية للحرب، وأدخلت تقليصات على ميزانية العام 2023، وأعادت بناء ميزانية العام 2024، لتشمل تقليصات في عدة بنود، وفرضت ضرائب إضافية، فضلاً عن رفع سقف العجز المالي للحكومة.
وأقرت الحكومة "الإسرائيلية" الميزانية المعدلة للعام 2024 في الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري.
أضرار اقتصادية حادة للعرب
الحالة الاقتصادية للمواطنين العرب تضررت بشكل جدي منذ بداية الحرب، نتيجة لأسباب اقتصادية وسياسية. وفقا لعدة تقارير نشرت منذ اندلاع الحرب على غزة، الضرر الاقتصادي الذي لحق بالمجتمع العربي كان حاداً ومباشراً، وترجم بالأساس في تراجع المشاركة في أسواق العمل، وارتفاع البطالة، وانخفاض في مستويات الدخل.
منتدى الاقتصاد العربي نشر تقريراً موسعاً حول نتائج الحرب على مشاركة المجتمع العربي في أسواق العمل.
يقول التقرير إن المعطيات الرسمية أظهرت تأثيراً خاصاً للحرب على التوظيف في المجتمع العربي، ولا سيّما على الرجال العرب، نتيجة الانخفاض الحاد في نشاط فروع البناء والبنى التحتية، وبسبب نقص العمال الأجانب والفلسطينيين، إلى جانب انخفاض الطلب في قطاعات التجارة والضيافة والأغذية والترفيه.
وتوضح المعطيات أن نسبة التغيب عن العمل في المجتمع العربي - فلسطينيو الداخل - في الأسبوع الأول بعد الحرب بلغت نحو 30% من المشاركين في سوق العمل، وانخفضت بعد ستة أسابيع إلى نحو 20%، وقد تأثر هذا التراجع أيضا من زيادة التوتر بين العرب واليهود، مما أدى إلى تقليص العلاقات الاقتصادية بينهم.
إلى جانب الزيادة في عدد العاطلين من العمل، تراجعت مجمل ساعات عمل العاملين منذ بداية الحرب.
فقد أفاد 51% من الرجال و33% من النساء بحصول انخفاض في ساعات العمل. ويرتبط انخفاض ساعات العمل أيضا بالضرر الذي لحق بشعور النساء العربيات بالأمان، ولا سيما العاملات في البلدات اليهودية، إذ أبلغت 40% من النساء العاملات في البلدات اليهودية عن انخفاض في ساعات العمل مقارنة بــ 27% من النساء اللواتي يعملن في أماكن العمل العربية.
كذلك، نشر مركز أهارون للسياسات الاقتصادية في جامعة رايخمان تقريراً خاصاً حول تأثير الحرب على الاقتصاد العربيّ، وتوصل إلى استنتاجات مشابهة، لكنه يركز بشكل خاص على الفروق في تأثير الحرب على القوى العاملة وفق الأجيال.
وفقا للتقرير، تأثر الرجال العرب في سن العمل الأساسي (25-64) سلباً أكثر من الفئات الأخرى. 28.9% من الرجال العرب العاملين في هذه الأعمار تغيبوا عن أماكن عملهم لأسباب تتعلق بالحرب، ثلثهم تغيبوا بسبب خروجهم إلى عطلة غير مدفوعة الأجر، والباقون تغيبوا لأسباب "أخرى" تعود على الأرجح إلى التوترات بين العرب واليهود.
وتصدر فرع البناء أعلى نسبة غياب لدى العمال، إذ تغيب ما يقارب نصف الرجال العرب العاملين في هذا الفرع في أكتوبر/ تشرين الأول، بينما تغيب عن العمل 8.9% من العاملين اليهود فقط بسبب البطالة وأسباب "أخرى".
أما الفئة العمرية 18-24 عاماً في المجتمع العربي، ففيها كانت معدلات التغيب عن العمل لأسباب تتعلّق بالحرب من إجمالي العاملين أعلى مما كانت عليه في سن العمل الأساسية (أي 25-65 عاماً).
انخفاض نسبة التشغيل
وفقا لتحليل قسم الأبحاث في "بنك إسرائيل"، بلغت نسبة البطالة بالتعريف الواسع 15.6% في المجتمع العربي مقابل 8.6% في المجتمع اليهودي، في الأشهر الأولى للحرب.
أجمعت التقارير على أن احتمال انخفاض نسبة التشغيل لدى المواطنين العرب أعلى بكثير من النسبة المتوقعة داخل المجتمع اليهودي، وذلك نتيجة لطبيعة الفروع الاقتصادية التي يعمل فيها المجتمع العربي، وضعف الاقتصاد العربي، ونتيجة التوتر الحاصل في البلدات اليهودية، الذي أسهم في اختيار المواطنين العرب ألا يكونوا في البلدات اليهودية في الأسابيع الأولى بعد عملية طوفان الأقصى، ونتيجة العنصرية الممارسة تجاه المجتمع العربي.
تراجع نسبة التشغيل وارتفاع البطالة وتراجع الاستهلاك أدت إلى تراجع معدلات الدخل لدى المجتمع العربي بشكل ملحوظ. وفقا لتقرير منتدى الاقتصاد العربي، أفاد 53% من الرجال و40% من النساء بانخفاض الدخل في أكتوبر/ تشرين الأول مقارنة بسبتمبر/ أيلول.
كذلك أشار التقرير إلى أن الانخفاض في دخل النساء العاملات في أماكن عمل مختلطة (البلدات اليهودية) كان أكثر حدة مقارنة بدخل النساء العاملات في أماكن العمل العربية، بينما كان الضرر أشد بالنسبة للرجال بصورة عامة، ولا سيما العاملين في أماكن عمل عربية.
وتشير تقارير أصحاب المصالح العرب أيضاً إلى تراجع حادّ في الدخل. إذ أفاد 87% من أصحاب المصالح في البلدات العربية بحصول انخفاض في حجم الدخل أو المبيعات، مقابل حصول انخفاض بواقع 73% للمصالح العربية في البلدات اليهوديّة.
عقاب عبر تقليص الميزانيات
فضلاً عن الضرر الناجم عن تراجع الحالة الاقتصادية، تضرر الاقتصاد العربي نتيجة التقليصات في الميزانية الحكومية. فقد أقرت حكومة الاحتلال، في 15 يناير/ كانون الثاني، ميزانيّة معدلة للعام 2024، تشمل تقليصا بنسبة 3% في الوزارات الحكومية كافة، وتقليص الميزانية المقررة للخطة الاقتصادية للمجتمع العربي بنسبة 15% أي بقيمة 4.5 مليارات شيكل، ستطاول الخطة الخمسية (التي اعتمدتها الحكومة السابقة)، وميزانيات التعليم، والرفاه وتطوير البنية التحتية، وخطة مكافحة الجريمة في المجتمع العربي.
تقليص الميزانية العامة سوف يخضع 23 خطة حكومية خاصة لتقليص بنسبة 15%. إلا أن مراجعة مفصلة لاقتراح وزارة المالية، قامت بها صحيفة ذي ماركر الاقتصادية، توضح أنه من مجمل 37 مليار شيكل مخصصة لتلك البرامج هنالك 32 مليار شيكل مخصصة للخطة الحكوميّة لتطوير الاقتصاد العربي. أي إنها ستكون الأكثر تضرراً.
وتضيف الصحيفة أنه من ضمن مبلغ الـ 11 مليار شيكل الـمزمع تقليصها، حصة المجتمع العربي هي قرابة 3 مليارات شيكل، أي قرابة ربع التقليص.
وعلى ما يبدو، النية المبيتة لدى وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بإيقاف تمويل الخطط الحكومية الخاصة بالمجتمع العربي كانت عاملاً مركزياً في هندسة التقليصات المقترحة في الميزانية الحكوميّة، لتكون من نصيب ميزانيات المجتمع العربي، ولا سيما أن هذه التقليصات لا تمس ميزانيات الاتفاقيات الائتلافية، المخصصة للاستيطان والمجتمع المتدين، بالحدة ذاتها.
الأضرار الاقتصادية في المجتمع العربي نتيجة الحرب على غزة لم تكن نتيجة التراجع الاقتصادي العام فقط، بل تأثرت كذلك بطبيعة ومواصفات الاقتصاد العربي، وبالسياسات العنصرية البنيوية تجاه المجتمع العربي، وسياسات إعاقة تنمية الاقتصاد العربي.
ومن المتوقع أن تكون الأزمة الاقتصادية في المجتمع العربي أعمق وأطول من الأزمة في الاقتصاد "الإسرائيلي". بسبب الحالة الاقتصادية المتردية أصلاً في المجتمع العربي مقارنة بالمجتمع "الإسرائيلي" قبل الحرب، ونتيجة ضعف الاقتصاد العربي وتعلقه بالاقتصاد الإسرائيلي.
كذلك تؤثر طبيعة مشاركة المواطنين العرب في أسواق العمل على عمق الآثار السلبية، بحيث يشارك الرجال في الفروع الاقتصادية الأكثر تضرراً من الحرب (منها على سبيل المثال البناء والبنى التحتية والصناعات التقليدية)، بينما تتركز مشاركة النساء العربيات في فروع الخدمات الحكومية التي تأثرت سلباً من التقليصات في الميزانيات الحكومية.
كما تعتمد السلطات المحلية العربية على الميزانيات الحكومية بشكل أكبر من اعتماد السلطات المحلية اليهودية على هذه الميزانيات.
تراجع الحالة الاقتصادية في المجتمع العربي، واستسهال تقليص الميزانيات الحكومية المخصصة للمجتمع العربي، يعكسان هشاشة طرح "خطاب الإنجازات" الذي تغنت به بعض الأحزاب العربية وروجت له، إذ ما زال الاقتصاد العربي ضعيفاً ومتعلقاً بالاقتصاد "الإسرائيلي".