مجدداً، توصلت حركتا فتح وحماس يوم الأحد الفائت في العشرين من أيار / مايو الجاري الى اتفاق جديد للمصالحة برعاية مصرية. تضمن الاتفاق ثمانية بنود لا تختلف في الشكل والمضمون عن اتفاقات: مكة 2007، القاهرة 2011 والدوحة 2012، ولا يضيف جديداً إليها، سوى كونه يرمي حجراً في مياه المصالحة الراكدة، ستلاحقه الخيبة والفشل ما لم يشكل نقلة نوعية تزيل الشكوك الكثيرة والمتراكمة لدى الأغلبية الساحقة من الفلسطينييين الذين ملوا لعبة الانتظار، وعافوا الاتهامات المتبادلة والتراشق الإعلامي المتفلت من كل قيود عن أسباب التعطيل، وتكسر جليد الثقة المفقودة بالسلطة عامة، وبأجهزتها الأمنية خاصة، التي تلاحق المجاهدين وتزج بهم في معتقلاتها، وكأنها تغرد خارج مناخات المصالحة وأجوائها!..
فهل يشكل هذا الاتفاق نقلة نوعية حقيقية في مسار نقل المصالحة بين الفصيلين المتخاصمين من ميدان الأقوال الى الأفعال؟
وهل أزيلت كل المعوقات التي اعترضت سبيل الاتفاقات السابقة، وباتت الطريق الى المصالحة مفتوحة ومفروشة بالرمل؟
هل أنجز الفصيلان المتخاصمان تسوياتهم الداخلية، وحققا المصالحة بين "أهل البيت الواحد"، ودوّرا الزوايا بين أصحاب وجهات النظر المتباينة، وأعادا ترتيب أوضاعهما بما يضمن عدم وجود معوقات وعراقيل تعطل التنفيذ في شطري مناطق سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود؟..
وهل أزيلت العقبات والموانع من أمام بدء عملية إعادة إعمار ما هدمه عدوان 2009 الصهيوني على قطاع غزة، وانتفت الاعتراضات الصهيونية و"العربية"، التي تحول حتى الآن دون إدخال الطاقة لإنارة ليل القطاع وإدارة محركات الحياة فيه؟..
وهل انتفت المعارضة الأميركية – الغربية – الصهيونية لمسار المصالحة، وتشكيل حكومة لا يقف على رأسها الدكتور سلام فياض، وتضمن حضوراً معنوياً لحركة حماس؟..
هل نجح السيد محمود عباس في إقناع الدول الممولة بأن المصالحة لن تغيّر في مسار السلطة وتوجهاتها، وأنها على نهج المفاوضات ماضية بدون تغيير أو تبديل؟
وهل حصل السيد محمود عباس على موافقة سلطات الاحتلال الصهيوني للسماح بإجراء الانتخابات
الثلاثية الأضلاع: الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، في الضفة الغربية والقدس المحتلة؟
وليس آخراً، هل سيتجاوز السيد محمود عباس المحظورات الأمنية، والاتفاقيات الموقعة مع الطرفين الأميركي والصهيوني، وينجح في إطلاق سراح كل المعتقلين الجهاديين، ويقوم بتبييض سجون السلطة وإقفال ملف الاعتقال والملاحقة والتعقب بحق المجاهدين، بدون رجعة، وبشكل نهائي؟..
إنها تساؤلات مشروعة، مل من طرحها المواطنون الفلسطينيون وكل الأشقاء والأصدقاء في الوطن العربي والعالم الإسلامي والأحرار في كل مكان، خاصة تلك المتعلقة بملاحقة واعتقال المجاهدين، في لحظة تاريخية هامة ينفذ فيها الأسرى الفلسطينيون معركة الأمعاء الخاوية التي تحتاج جمع الصفوف ولم الشمل وكل أشكال الدعم والتأييد؟ لذلك، فإن الشارع الفلسطيني الذي لم يهلل للحلقة الجديدة من مسلسل المصالحة، ينتظر الترجمة العملية ليحكم للموقعين إن كان حبرهم ثابت أم أنه سريع الذوبان؟
ماذا حمل الاتفاق الاخير؟
يبدو أن معركة الأمعاء الخاوية التي خاضها آلاف الأسرى الفلسطينيين، وكان في طليعتها المجاهد الشيخ خضر عدنان والمجاهدة هناء الشلبي، شكلت إحراجاً كبيراً للمتخاصمين
الفلسطينيين، خاصة بعد نجاحهم في فرض شروطهم على سلطات الاحتلال، وانتصار إرادتهم الموحدة، رغم غطرسة وجبروت وعسف السجان وحالة الانقسام والشلل الفلسطينية... ودفعت بهما للاستعجال في إخراج المصالحة من ثلاجة الانتظار، خاصة في ظل حالة التهميش الدولي والعربي للقضية الفلسطينية في الوقت الراهن، وانسداد آفاق التسويات والمفاوضات، جراء استمرار انشغال الإدارة الأميركية بمعركة الانتخابات الرئاسية، ودخول معظم الدول الاوروبية في أزمات اقتصادية اجتماعية، ومساعي ترتيب وضع الحكومة الصهيونية المصرّة على مواقفها بشأن الاستيطان والحدود، كما ورد في رسالة نتنياهو التي حملها مستشاره مولخو، وشلل المجموعة العربية، بسبب الأزمات والاضطرابات التي تشغل بال العديد من الدول، وتركيز قوى "الاعتدال" فيها على ملف الأزمة السورية، باعتبارها قضيتها المركزية، وإعطائها كل وقتها وجهدها ومالها ودعمها!..
إن كل هذه الأجواء الملتبسة والمعقدة شكلت المقدمة الموضوعية والأرضية لتظهير الحلقة الأخيرة من مسلسل المصالحة والذي حمل ثمانية بنود هي التالية:
1- تبدأ لجنة الانتخابات المركزية عملها في قطاع غزة اعتباراً من يوم 27 أيار 2012.
2- يلتقي وفدا حماس وفتح لبدء مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة المتفق عليها يوم 27 أيار 2012 فور بدء لجنة الانتخابات المركزية عملها في قطاع غزة.
تختتم مشاورات تشكيل الحكومة بين الوفدين بلقاء بين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل والرئيس محمود عباس (أبو مازن) في القاهرة خلال مدة لا تتجاوز 10 أيام للإعلان عن الحكومة الجديدة.
3- تستأنف لجنة الانتخابات المكلفة إعداد قانون انتخابات المجلس الوطني عملها اعتباراً من 27 أيار 2012 لتهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني بالتزامن.
4- يتم تحديد موعد إجراء الانتخابات بالتوافق بين كافة الفصائل والقوى الفلسطينية في ضوء إنجاز عمل لجنة الانتخابات المركزية.
5- تحدد مدة عمل الحكومة التي سيتم تشكيلها بفترة لا تزيد عن 6 أشهر لتنفيذ المهام المتفق عليها بما في ذلك (إجراء الانتخابات ـ البدء في إعادة إعمار غزة) مع ربط مدة هذه الحكومة بالموعد الذي سيتم التوافق عليه لإجراء الانتخابات.
6- في حال تعذر إجراء الانتخابات في الموعد المتفق عليه نتيجة أي سبب خارج عن إرادة الأطراف، يلتقي الطرفان لبحث إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة برئاسة شخصية مستقلة يتم التوافق عليها.
7- التأكيد على أهمية تنفيذ ما ورد في اتفاقية الوفاق الوطني بشأن تهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات، وذلك من خلال سرعة العمل على تطبيق توصيات لجنتي الحريات العامة في الضفة والقطاع، وعلى حكومة التوافق الوطني إنجاز ملف الحريات العامة كاملاً في أسرع وقت ممكن قبل إجراء الانتخابات وفق القانون.
8- يعد ما ورد في هذا الاتفاق رزمة واحدة، وتعدّ التوقيعات الواردة به ملزمة للطرفين وستقوم مصر من جانبها بالمراقبة والإشراف على تنفيذ كل طرف لالتزاماته بما في ذلك قضايا الحريات العامة.
العاقبة بالتنفيذ!...
وفق مبادىء هذا الاتفاق، يشكل السابع والعشرين من أيار / مايو موعداً لخروج المصالحة الى حيز التطبيق العملي، حيث يبدأ عمل لجنة الانتخابات المركزية في قطاع غزة، وانطلاق مشاورات تشكيل الحكومة العتيدة... التي من المفترض أن تختتم بلقاء السيدين محمود عباس وخالد مشعل في القاهرة خلال 10 أيام للإعلان عن الحكومة التي حددت فترة عملها بستة أشهر لتنفيذ المهام الموكلة اليها... انطلاقا من ضرورة "تهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات"، وتوفير الأجواء المريحة، من خلال إطلاق حرية العمل الدعاوي والحراك السياسي في الضفة والقطاع لكل القوى والفصائل والحركات والشخصيات، بعيداً عن الإجراءات الأمنية والملاحقة، وسياسة كم الأفواه المتبعة، التي كانت آخر تجلياتها إغلاق العديد من المواقع الإلكترونية، ومحاكمة الصحافيين الذين يكشفون ملفات الفساد المعشش في أجهزة السلطة وسفاراتها ومؤسساتها.
ورغم أجواء الإرتياح التي حاول الطرفان المتصالحان فرضها وتعميمها على النسخة الأخيرة من مسلسل المصالحة، فإن البند السادس منه شكل نقطة اعتراضية وثغرة تحد من الاندفاعة التفاؤلية، وتلجم "آمال" المتفائلين، من خلال الحديث عن إمكانية "تعذر إجراء الانتخابات في الموعد المتفق عليه نتيجة أي سبب..." والبحث في إمكانية "تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية مستقلة يتم التوافق عليها"...
إن وجود هذا البند يفتح الباب واسعاً أمام كل المشككين، وهم كثر في الساحة الفلسطينية، لكبح جماح تفاؤلهم... لكونه يبشر الفلسطينيين بإمكانية بقاء الأمور على حالها، والعودة الى المربع الأول، والتحاق اتفاق القاهرة بمصير أشقائه، الأمر الذي يجعل من الانطلاق بالترجمة العملية على أرض الواقع، وأول خطواتها، وقف حملات اعتقال المجاهدين ومداهمة منازلهم، وتبييض سجون السلطة... ووقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الصهيوني، وأجهزتها الأمنية، نقطة الارتكاز للأمل المفقود بمسيرة المصالحة المتعثرة!..
ما العلاقة بين التوقيع على الاتفاق وموجة الاعتقالات؟
صبيحة الإعلان عن الاتفاق بين الحركتين، شنت أجهزة السلطة حملة مداهمات واسعة بحق عنصار ومجاهدين من حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، واعتقال العديد منهم. هذا الأمر استدعى أسئلة خطيرة وكبيرة من نوع: ما هو الرابط بين التوقيع على الاتفاق في القاهرة وموجة الاعتقالات هذه؟ ولماذا استهداف كوادر حركة الجهاد الإسلامي في هذا الوقت بالذات، وهي التي أرغمت العدو الصهيوني على التعهد بوقف الاغتيالات في غزة، بعد مواجهة دامية، واستطاع مجاهدوها في سجون الاحتلال تحقيق انتصار هام جداً لصالح الحركة الأسيرة؟ ولمصلحة من جاءت هذه الاعتقالات، وما الهدف أو الأهداف من ورائها؟
فلكي تتحقق المصالحة، لا بد من إيجاد حل جذري يؤدي الى وقف عمليات الاعتقال السياسي.. فهل توقف السلطة حملات الاعتقال والمداهمة بحق المجاهدين وأسرهم؟..
وهل تأخذ المبادرة بإطلاق سراح كل المجاهدين من سجونها، وتوقف التنسيق الامني؟.. لتكرس أولى خطوات إعادة الثقة؟
فلا معنى للمصالحة الفلسطينية في ظل استمرار أمن السلطة بالضفة الغربية باعتقال المجاهدين وعناصر المقاومة من أبناء حركة الجهاد الإسلامي. فاستمرار الاعتقال السياسي في الضفة الغربية هو استمرار لدور الاحتلال الصهيوني في اعتقال المجاهدين وقتل الفرحة الفلسطينية التي تجسدت في انتصار الأسرى الأبطال وانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة.
وذريعة بسط الأمن ومواجهة الفلتان الأمني لا تبرر ما تقوم به أجهزة السلطة، لأن ذلك وبساطة يعبر عن إساءة بالغة بحق المجاهدين الذين يتم مساواتهم مع المجرمين والمخلين بالأمن. وفوق ذلك، فإن سعي الأجهزة لبسط نفوذها واستعادة هيبتها لا يتأتى عبر السطو على الحرمات واقتحام البيوت الآمنة وترويع أصحابها واعتقال المواطنين الشرفاء بحجج ومبررات واهية. فالفلتان الأمني له عناوين، والسلطة تعلم جيداً من يفتعل الفلتان في الضفة الغربية.
شعبنا الفلسطيني ينتظر تحقيق المصالحة والوصول الى وحدة وطنية عبر خطوات عملية، لينطلق منها وعلى أساسها، للبحث بشكل جدي في المصالحة والوحدة الوطنية الحقة التي تدوم، والتي يشكل أساسها الموضوعي الخروج من الأنفاق السياسية المظلمة والخيارات العبثية، والعودة الى رحاب المقاومة.
فهل نشهد مثل هذه الخطوات، أم سيطول انتظارنا؟..