بقلم: راغدة عسيران
كان منظر هروب المستوطنين من مدينة اللد، قبل أيام، أمام مجموعة من الشباب اللدواي الغاضب والثائر، مؤشرا على التحوّل الاستراتيجي الذي طرأ في فلسطين وفي الوطن العربي، مع بداية معركة "سيف القدس". من "الأقلية العربية" المهمشة والفقيرة والغارقة في وحل الإجرام والمخدرات، وهذه كانت صورة فلسطينيي اللد التي يبثها الإعلام الصهيوني والمتصهين، خرج شباب وطني مدافع عن الأقصى والقدس، يهتف لصواريخ المقاومة ويطلب المزيد، ويهجم على المستوطنين والشرطة الصهيونية ويحرق مركباتها.
ماذا حصل في اللد؟ وكيف تحوّل المشهد خلال بضعة أيام؟ كسائر المدن المصنفة بـ"المختلطة" في فلسطين المحتلة عام 1948، تعيش اليوم مدينة اللد انقلابا حقيقيا لكل المفاهيم التي سادت بعد اتفاقيات أوسلو وحتى قبلها، بدءا من التعايش مع المستوطن وفكرة المواطنة في دولة الكيان وصولا الى الاكتفاء بوضع "أقلية" تريد العيش في سلام وترضخ للتفوّق اللاأخلاقي الصهيوني وتشارك في بناء كيان همجي الى جانب جنرالات العدو.
قبل أيام، نظّم أهل اللد مظاهرة داخل مدينتهم لدعم المقدسيين في المسجد الأقصى والشيخ جراح. خرج المستوطنون من أوكارهم وأطلقوا النار على المتظاهرين وقتلوا الشهيد موسى حسونة (31 عاما) وجرحوا العديد من المتظاهرين. لم يسكت شباب اللد، وبعد تشييع حاشد لجثمان الشهيد، الذي ضم قرابة 8000 مشيعا، شنّ الشباب هجوما واسعا على المستوطنين وطردوا بعضهم الى خارج المدينة، في مشهد مذلّ لهم ولأنصارهم، وتابعوا ثورتهم ضد الشرطة الصهيونية التي اقتحمت الأحياء العربية دعما للمستوطنين، فأحرقوا مركباتهم ومركبات المستوطنين وصوّبوا أسلحتهم على الصهاينة، وهو السلاح الذي كان قد استعمل سابقا في عمليات قتل الفلسطينيين، كما أشار اليه بعض الباحثين. فاندلعت مواجهات مع شرطة العدو وميليشياته، القاطنين في المدينة أم الذين يغزون حاليا البلدات والمدن الفلسطينية، قادمين من مستوطنات الضفة الغربية.
اعتقلت الشرطة الصهيونية العشرات من أبناء اللد (أكثر من 800 معتقلا من بين فلسطينيي 48)، منذ بداية الهجمة المسعورة ضد فلسطينيي 48، وأعلنت حالة الطوارئ وفرضت منع التجول، وقامت بقطع الكهرباء عن حي المحطة، كوسيلة استعمارية انتقامية ضد أهل المدينة العربية.
تعيش مدينة اللد منذ تموز/يوليو 1948 تحت سيطرة العدو. لا يعرف أهلها ومن لجأ اليها، بعد تدمير قريته في النقب، إلا التهميش والفقر وهدم المنازل. لقد أقامت البلدية الصهيونية، قبل سنوات، جدارا يفصل بين الأحياء العربية الفقيرة وأحياء المستوطنين، الذين قدموا الى المدينة بعد احتلالها. تسارعت عمليات هدم المنازل بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، لا سيما بعد تخطيط بلديات الاحتلال في المدن "المختلطة" لإسكان اليهود المتدينين فيها، لتهويدها وطمس تاريخها العربي والإسلامي. تشكّلت اللجان الشعبية لحماية الأهالي، وقامت عدة مظاهرات ومسيرات ضد سياسة العدو، وتمكّنت من بث الوعي ورفع المطالبة بالحق في المسكن والعيش بكرامة في الوطن المسلوب.
لكن هذه الحقوق الطبيعية غير ممكن تحقيقها في دولة استعمارية استيطانية إلغائية، وتحت سقف "المواطنة"، وهو سقف الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست الصهيوني. يسعى العدو الى تهويد المدينة العربية الإسلامية وضرب فلسطينيي 48 أينما وجدوا، وتفريغ نضالاتهم السياسية والاجتماعية من محتواها الوطني وأبقائهم في وهم المشاركة والمواطنة. إضافة الى أن مطلب المواطنة في دولة الكيان يكرّس تجزئة الشعب الفلسطيني فهو يضع حدا لطموحاته في التحرير والعودة، الذي يتطلع اليه الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية، ويضعف الحركة الوطنية ويشتهها بين مطالب تجزيئية ومنقوصة. فجاءت معركة "سيف القدس" لتعيد الأمور الى طبيعتها على أرض فلسطين وتفضح وهم هذه المواطنة.
العودة الى التاريخ
في قرار تقسيم فلسطين في العام 1947، كانت مدينة اللد تقع ضمن الدولة العربية المنشودة. ولكن، بسبب أهميتها الاستراتيجية، هاجمتها القوات الصهيونية في بداية شهر تموز/يوليو بالطيران والمدافع وراجمات الألغام قبل اقتحامها في يوم 11 تموز 1948.
فكتب الصحافي الصهيوني (آري شافيت 2013) يشرح أهمية المدينة بالنسبة للغزاة الصهاينة، بالقول أنه لولا احتلال المدينة لما تمكّن العدو من إقامة كيانه، كما جاء في دراسة (مركز مدار) : "هل أدير ظهري للحركة القومية اليهودية التي دمرت مدينة اللد ؟ لا... فإن احتلال اللد وطرد سكانها لم يكن حادثا عرضيا. فقد شكلت هذه الأحداث مرحلة حاسمة من الثورة الصهيونية، كما أرست هذه الوقائع القاعدة التي قامت الدولة اليهودية عليه، إن اللد تشكل جزءا أصيلا لا يتجزأ من القصة.. تمثل مدينة اللد الصندوق الأسود للحركة الصهيونية. وفي الحقيقة، لم تستطع الحركة الصهيونية أن تتحمل وجود مدينة اللد العربية... أن اللد كانت تشكل عقبة تسد الطريق أمام قيام دولة يهودية، وأنه كان من الواجب على الحركة الصهيونية أن تزيلها في يوم من الأيام".
لقد دافع اللديون عن بلدتهم، إلا أن نفاذ ذخيرتهم وكثرة المهاجمين ومعداتهم الحديثة أدى إلى احتلال الصهاينة للمدينة، كما نقلت الوثائق العربية. قتل الصهاينة عند احتلالهم لمدينة اللد 426 فلسطينيا، منهم 176 شهيدا كانوا ضحية مجزرة جامع دهمش، قادها القاتل موشي ديان. لقد بقي المسجد مغلقا لسنوات طويلة حتى تم ترميمه وافتتاحه أمام الجمهور في العام 2002.
في 13 تموز/يوليو، هجّر الصهاينة أهل اللد، ولم يبق منهم سوى 1052 نسمة في حين كان عددهم يفوق ال19000 نسمة.
في تسجيل يوثق حياة الفلسطينيين قبل التهجير، يتذكر اسماعيل عبد القادر شموط، الفنان التشكيلي الوطني البارز (المتوفي في اللجوء في العام 2006)، الحياة في مدينة اللد قبل النكبة ويسرد كيف تم تهجير أهلها: "في اليوم الأخير، يوم 13 تموز/يوليو، سمعنا هدير من الناس تمشي، ثم تم طرق الباب باعقاب البنادق، قالوا لنا: "برا". طلعنا من بيوتنا باتجاه واحد، ساحة النواعير. تذكرت الناس ما فعله الانكليز خلال ثورة 36-39، حين طلبوا من الناس الخروج والتوجه الى الساحة، واعتقدوا أن الأمر سيكون مماثلا.
لكن، بعد ان جمعونا، فتحوا ثغرة معينة وأمرونا بالاتجاه الى الشرق. كان شهر رمضان، مررنا من وسط المدينة، رأينا المحلات مفتوحة، وجثث الشهداء". يواصل الراحل اسماعيل شموط سرده ويصف مسيرة العذاب لأهل اللد والرملة ومن تشرّد من مدينة يافا وقراها وكانوا قد لجأوا الى اللد قبل أسابيع : "كان الطقس حارا، ومشت الناس باتجاه الشرق. في طريقنا، كانت هناك بيارة، كان الأطفال يريدون شرب الماء. تسلّلت الى بئر الماء، واستطعت إحضار القليل منه، لكن جاءت سيارة جيب وطلب الضابط (الصهيوني) مني رمي الماء على الأرض، فرميته لأنه كان يهددني بالسلاح على رأسي. ثم أكملت المسيرة مع أهلي. كان التعب والخوف يسيطر علينا، لا نعرف الى أين ذاهبين... رأيت الناس تموت من العطش، فيضطر أهلهم الى تركهم، وكانت الناس تأكل الحشيش. بعد 4 أو 5 ساعات، وصلنا الى مكان فيه بعض الماء، كان لونها أحمر، شربناها. ثم بعد ساعات، وصلنا الى بلدة نعلين... فرشنا تحت الزيتونة ونمنا، في الصباح، نقلتنا السيارات العسكرية الأردنية من نعلين الى رام الله."
ينقل أبو جمعة (ذاكرة فلسطين) ذكريات أفراد عائلته المهجّرة: "عانت العائلة أثناء سيرها من اللد لرام الله سيرا على الأقدام معاناة كبيرة جدا كباقي العائلات اللداوية، نتيجة شح المياه والحر الشديد وخاصة في شهر رمضان المبارك والناس صيام وتحديدا في شهر تموز من ذلك العام. حدثني كبار السن عن بعض القصص المأساوية التي شاهدوها أثناء سيرهم وهي أن كثيرا من الناس قد لقوا حتفهم في الطريق نتيجة العطش والإرهاق الذي ألمّ بهم في ذلك اليوم الحار.
حدثني آخر أنه رأى سيدة ملقاة على قارعة الطريق ميتة وطفلها الذي لا يتعدى عمره أشهر معدودات مستلق على ثديها ظانا منه أنه يرضع ولكن والدته أصبحت في عالم آخر، فما كان من الحشد الذي كان يسير إلا أن التقط الطفل وأخذوه معهم والله يعلم أين هو الآن. حدثني من هم أكبر مني سنا وعاصروا تلك الفترة عن قصص مأساوية كثيرة منها، أثناء طردهم من اللد وسيرهم، كان يقابلهم اليهود على الطريق العام يفترشون حراما (بطانية) وعلى كل من يمر من أمامهم عليه أن يضع ما بحوزته من مصاغ ذهبية خاصة النساء وكل شيء ثمين لديهم، وكذلك الفلوس، إجباريا وبالقوة حيث أقسموا لنا يمينا أن ما على البطانية هي كومة كبيرة من الذهب تقدر بعشرات الكيلوات.
حدثني آخر وهو أحد الأقرباء وكان عمره آنذاك لا يتعدى الثانية عشرة من عمره أنه وعندما كان مغادرا مع أهله وبحوزته دراجته (بسكليت) أقسم لي يمين أنهم أخذوا الدراجة منه عنوة ووضعت بجانب كومة الذهب المسلوب غير مبالين بتوسلاته كطفل متمسك بدراجته، وقد هددوه بالقتل أن هو لم ينصع لأوامرهم. "(فلسطين الذاكرة، أبو جمعة 2010 " من ديوان العائلة، وهو جزء لا يتجزأ من جمعية اللد الخيرية في محافظة رام الله والبيرة ويعمل تحت مظلتها".
وتتذكّر السيدة فاطوم الترتير ما حصل بعد التهجير القسري لأغلبية أهل المدينة، وقد استطاعت العودة اليها".: "اليهود سكنوا بالدكاكين جنب الخان، ما كان وقتها شيكونات، وسكنوا كمان ببيوت العرب، لحد ما بنوا لهم شيكونات، محل دارنا اليوم مبني شيكون لليهود". وفيما بعد، أسكن الصهاينة في بيوت الفلسطينيين اليهود الأثيوبيين وبعدها، نحو 15 ألفا من الجماعات اليهودية المتدينة.
ولكن، لم يختصر تاريخ المدينة الحديث وأهلها على النكبة والمجازر والتشريد، إذ يتذكّر أهلها ويستعيدون تاريخ المقاومة، مقاومة الاحتلال البريطاني ومقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
فيذكر الكاتب إسبير منيّر من أبناء اللد في كتابه حول المدينة أن أبناءها شاركوا في ثورة 1936 بالهجوم على خطوط السكة الحديدية، حيث كانت تنقل الأسلحة في القطار القادم من يافا والمتوجه الى معسكر الجيش الانكليزي في الصرفند، وذلك في بداية الثورة (تموز 1936). وبعد عملية أخرى قام بها الثوار اللديون، قتل البريطانيون "الثائر البطل حافظ صقر"، وهو جريح، لأنه لم يدل بمعلومات عن رفاقه الثوار.
يذكر أيضا ان العمليات التي قام بها ثوار اللد أوقعت مئات الإصابات من قتلى وجرحى بين أفراد الجيش والشرطة البريطانيين. فكان الاحتلال البريطاني ينتقم من اللديين، بنسف منازلهم "وإخراج السكان من منازلهم في ساعات الفجر ووضعهم في ساحة البيادر حيث يمضون النهار بكامله جالسين على الأرض من دون ماء أو غذاء". وفرض الحصار ومنع التجول مرارا، كما يفعل الصهاينة اليوم مع من يعتبرهم "مواطنين".
من مدينة اللد، يستعيد الشباب سير الأبطال والشهداء، أمثال الشهيد حسن سلامة، الذي شارك في ثورة 1936-1939، وفي الدفاع المقدس في العام 1948، قبل أن يستشهد، كما يتذكر أبناء المدينة أن المقاوم الراحل جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ينتمي الى مدينة اللد، وقد أقامت له الأحزاب العربية واللجنة الشعبية تشييعا رمزيا في بلدته بعد وفاته في عمان.
تقول الحاجة فطوم ترتير : "هذه البلاد أرضنا، أرض مقدسة، الاحتلال إستغلنا وهجرنا.. لازم نوعي أولادنا وما نخلي المخدرات تستغلنا، الدولة عم تستعمل سياستها عشان يهدمونا. اليوم ألانتفاضه ضرورية عشان ما تموت القضية" (2010).
واليوم، في مدينة اللد العريقة، لا يمكن العودة الى الوراء بعد معركة "سيف القدس" التي كسرت معادلات كثيرة وأزالت أوهام، منها وهم المواطنة في دولة الكيان.